«لا تُنزِلوهنَّ الغُرَفَ ولا تُعلِّموهنَّ الكتابةَ وعلِّموهنَّ الغَزْلَ وسورةَ النُّورِ»، استند مثيرو هذه الشبهة إلى هذا النص الذي ورد في «المستدرك»، وادَّعوا أن الإسلام يمنع تعليم المرأة، ويُفَضل أن تبقى جاهلة أو أقرب إلى الجهل.
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
القرآن الكريم يدعو إلى العلم
لقد كانت أُولى كلمات الوحي الذي خاطب الله تعالى بها الرسول صلى الله عليه وسلم هي قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق).
ولقد بدأ الوحي بالأمر بالقراءة لأنها أهم وسائل تثبيت المعرفة ومتابعة حلقاتها، والقراءة إنما تكون بعد الكتابة، ومن أجل ذلك أظهر الله منته على عباده إذ علم بالقلم، فعلم الإنسان -كل الإنسان بشطريه الذكر والأنثى- ما لم يعلم.
وهذه الدعوة التي دعا الله بها الإنسان إلى العلم منذ اللحظات الأولى التي بدأ بها إنزال تعاليم الإسلام أكبر برهان يدل على التسوية التامة بين شطري الإنسان الذكر والأنثى في ميدان دعوتهما إلى العلم والمعرفة(1).
تعاليم الإسلام تدعو إلى تعليم المرأة
وقد حرص الإسلام كل الحرص على تعليم المرأة ما تكون به عنصر صلاح وإصلاح في مجتمع إسلامي متطور إلى الكمال، متقدم إلى القوة والمجد، آمن مطمئن سعيد.
ولتحقيق هذا الهدف حرص على إشراك المرأة في المجامع الإسلامية العامة الكبرى منها والصغرى، فأذن لها بحضور صلاة الجماعة، وأن تشهد صلاة الجمعة وخطبتها، ورغَّبَها في أن تشهد صلاة العيد وخطبتها حتى ولو كانت في حالة العذر الشرعي المانع لها من أداء الصلاة، وأمرها بالحج والعمرة، وحثها على حضور مجالس العلم، وخاطب الله تعالى النساء بمثل ما خاطب به الرجال، وجعلهن مندرجات في عموم خطاب الرجال في معظم الأحوال حرصاً على تعليمهن وتثقيفهن وتعريفهن أمور دينهن ومشاركتهن في القضايا العامة(2)، واقرأ إن شئت قوله تعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب: 35).
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخصص للنساء أيامًا يجتمعن فيها، ويعلمهن مما علمه الله، إضافة إلى الأيام التي يحضرن فيها مع الرجال، ليتعلمن من العلم ما يخصهن ويتعلق بشؤونهن مما ينفردن به عـن الرجـال بمقتضى تكوينهن الجسدي والنفسي.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ الرِّجَالُ بحَديثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِن نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ، تُعَلِّمُنَا ممَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، قالَ: «اجْتَمِعْنَ يَومَ كَذَا وَكَذَا» فَاجْتَمَعْنَ، فأتَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَعَلَّمَهُنَّ ممَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قالَ: «ما مِنْكُنَّ مِنِ امْرَأَةٍ تُقَدِّمُ بيْنَ يَدَيْهَا، مِن وَلَدِهَا ثَلَاثَةً، إلَّا كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ»، فَقالتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ»(3)، وثبت أن الشفاء بنت عبدالله المهاجرة القرشية العدوية علَّمت أم المؤمنين السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الكتابة بإقرار من رسول الله صلى الله عليه وسلم(4)، وهذه أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما كانت من أفقه نساء العالم، كثيرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تعليم المرأة المسلمة عبر التاريخ
والتاريخ الإسلامي حافل بأخبار المسلمات اللائي بلغن درجة رفيعة ومكانة عالية في العلم، فكان منهن الأديبات والشاعرات والفقيهات، فهذه أمة العزيز بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور الملقبة بـ«زبيدة» زوجة هارون الرشيد كانت عالمة، وبلغت مكانة راقية في كتابتها الأدبية، فكانت تجيد «فنّ التوقيعات»، وهو فنُّ الرد على الرسائل بأسلوب نثري بليغ وبكلمات موجزة، وكريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزية رحمها الله من العالمات الكبيرات ومن نوابغ النساء في تاريخ العلم الشرعي، عاشت كريمة قرناً كاملاً وبلغت من العمر مائة عام –ولدت 363هـ، وتوفيت 463هـ– وقضت حياتها للعلم وفي العلم حتى تركت بصماتها في العلوم الإسلامية، وتركت بصمة خاصة في علم الحديث لا سيما صحيح البخاري، وكان يرحل إليها أفاضل العلماء.
وزينب بنت أبـي القاسم كانت عالمة، أدركت جماعة من أعيان العلماء وأخذت عنهم، وأجازها أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري والمؤرخ ابن خلكان، وحدَّث عنها ابن هلالة، وابن نقطة، والبرزالي، والضياء، وابن الصلاح، والمرسي، وإبراهيم الصريفيني، ومحمد بن سعد الهاشمي، والصدر البكري، وابن النجار.
وعائشة بنت محمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد ابن قدامة المقدسي، سمَّعَت صحيح البخاري على حافظ العصر المعروف بالحجار، وروى عنها الحافظ ابن حجر، وانفردت في آخر عمرها بعلم الحديث.
وذكر عبدالواحد المراكشي أنه كان بالربض الشرقي في قرطبة 470 امرأة يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، وغير هؤلاء الكثيرات، فلم يكن الإسلام مانعاً لتعلم المرأة وتقدمها في حضارة الحياة العلمية والعملية، ولم يكن مجحفاً في حقها ومهينـاً لكرامتهاً كما يزعم هؤلاء المرجفون(5).
نصوص النهي عن تعليم المرأة غير صحيحة
أما النصوص التي استند إليها هؤلاء المرجفون في إثارتهم لهذه الشبهة، وفي القلب منها حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: «لا تنزلوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن المغزل وسورة النور»(6)، فهذا النص تكلم علماء الحديث في بيان ضعفه وشدّة وهنه؛ لأن في سنده محمد بن إبراهيم الشامي قال ابن الجوزي: «هذا الحديث لا يصح، محمد بن إبراهيم الشامي كان يضع الحديث»(7)، ونقل الذهبي عن الدارقطني تكذيبه(8)، وقال ابن حجر: «منكر الحديث»(9)، وقال شمس الحق العظيم آبادي: «هو منكر الحديث ومن الوضاعين»(10).
وأما تصحيح الحاكم للرواية التي أخرجها فقد تَعَقَبَه الحافظ ابن حجر بقوله: «بل عبد الوهاب بن الضحاك متروك، وقد تابعه محمد بن إبراهيم الشامي عن شعيب بن إسحاق، وإبراهيم رماه ابن حبان بالوضع»(11).
وقال شمس الحق آبادي: «وأحاديث النهي عن الكتابة كلها من الأباطيل والموضوعات ولم يصحح العلماء واحدًا منها، ما عدا الحاكم الحافظ أبا عبد الله، وتساهله في التصحيح معروف، وتصحيحه متعقب عليه.. ومن قال: إن البيهقي أيضًا صحح حديث النهي وتبعه جلال الدين السيوطي فهذا افتراء عظيم على البيهقي والسيوطي».
وقال الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود: «أما ما يذكر من نهي النساء عن تعلم الكتابة فإن الحديث مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حقق العلماء بطلانه فسقط الاحتجاج به، وقول الحق هو أن المرأة كالرجل في تعلم الكتابة والقراءة والمطالعة في كتب الدين والأخلاق وقوانين الصحة والتدبير وتربية العيال ومبادئ العلوم والفنون من العقائد الصحيحة والتفاسير والسير والتاريخ وكتب الحديث والفقه، كل هذا حسن في حقها، تخرج به عن حضيض جهلها، ولا يجادل في حسنه عاقل، مع الالتزام بالحشمة والصيانة وعدم الاختلاط بالرجال الأجانب»(12).
فهل يحق لهؤلاء المرجفين الاحتجاج بهذه الرواية المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
________________________________
(1) بتصرف من أجنحة المكر الثلاثة – عبد الرحمن حبنكة 1/586-587.
(2) بتصرف من أجنحة المكر الثلاثة – عبد الرحمن حبنكة 1/588.
(3) صحيح مسلم – رقم: 2633 – صحيح البخاري – رقم: 101.
(4) أخرجه أحمد (372/6)، وأبو داود في الطب، باب: ما جاء في الرقي (3887)، والحاكم (56/4-57) وصححه، ووافقه الذهبي والألباني في السلسلة الصحيحة (178).
(5) بتصرف من كتاب: “المرأة المسلمة أمام التحديات” – المؤلف: أحمد بن عبد العزيز الحصين – 1/ 62-64.
(6) أخرجه الطبراني في الأوسط (34/6)، والحاكم في المستدرك (396/2)، والبيهقي في الشعب (477/2)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
(7) عقود الجمان في جواز تعليم الكتابة للنسوان لأبي الطيب شمس الحق أبادي 1/22.
(8) ميزان الاعتدال في نقد الرجال – المؤلف: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (ت ٧٤٨هـ) 4/445.
(9) تقريب التهذيب – المؤلف: أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢هـ) – 2/141.
(10) عقود الجمان في جواز تعليم الكتابة للنسوان لأبي الطيب شمس الحق أبادي 1/22.
(11) المرجع السابق.
(12) بتصرف من كتاب «المرأة المسلمة أمام التحديات» – المؤلف: أحمد بن عبدالعزيز الحصين – 1/ 64-65.