لعله لم تمر على مدينةٍ في العالم أحداث جسامٌ بقدر ما مرت على مدينة القدس عبر تاريخ البشر، فهذه المدينة كانت على مدار التاريخ محوراً لصراعات واحتلالات، بل وتدمير متتالٍ على مر التاريخ بما جعلها تتشكل اليوم من طبقات تاريخية أثرية لأمم دفن بعضها بعضاً وقام بعضها فوق بعض، لا أقول: إنها المدينة الوحيدة في التاريخ التي مرت بهذا العدد من الأمم والاحتلالات المتعددة، لكنها قد تكون الأكثر تنوعاً في شكل ونوع وطبيعة كل احتلال، خاصة مع ما لها من مكانة روحية وتاريخية وثقافية خاصة.
ويظلم البعض اليوم القدس بمحاولة دراسة تاريخها وطبيعتها وفلسفتها بعيداً عن شخصيتها الدينية الروحية لدى أتباع الديانات، فالحق أنه لا يمكن فهم طبيعة الصراع على المدينة المقدسة في حال فصلها عن طبيعتها الدينية، وهنا يأتي دور المسجد الأقصى المبارك ليشكل العنصر الأكثر أهمية وقداسة في القدس، وليكون دائماً الحاضر الغائب في تاريخ المدينة المقدسة.
فالواقع التاريخي له شواهد كثيرة تبين أن جزءاً كبيراً من الصراعات التي مرت بها مدينة القدس كان محورها الأساسي هو المسجد الأقصى المبارك، دعك هنا من الرواية التوراتية التي حاول بعض المستشرقين زرعها بالغصب في أرض المدينة المقدسة، فهي رواية تجعل المسجد الأقصى المبارك يأتي متأخراً في تاريخ المدينة، بينما تأتي الدراسات التي يقوم بها العلماء المسلمون المختصون اليوم لتبين حقيقة عجيبة: أن المسجد الأقصى المبارك سبق القدس في الوجود والبناء والتاريخ، وذلك مصداقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي بيَّن أن بناء «الأقصى» جاء بعد أربعين عاماً من بناء الكعبة المشرفة، فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام»، قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى»، قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون..» الحديث (رواه البخاري 3425، ومسلم 520)، وهذا ما تمكن بعض الباحثين اليوم من إثباته، مثل د. هيثم الرطروط في جامعة النجاح في نابلس، الذي بين أن «الأقصى» و«الكعبة» بينهما علاقة هندسية متناسقة تثبت أن الباني واحد، وأنه لا شك كان أقدم من وجود بني إسرائيل كلهم في الأرض، بل لعله يعود إلى عهد أبي البشر آدم عليه الصلاة والسلام.
لا يقف الأمر هنا، بل إنه لدى محاولتي فهم علاقة المسجد الأقصى المبارك بتاريخ القدس وجدت أن بناء مدينة القدس الأولى نفسها كان مرتبطاً بوجود المسجد الأقصى المبارك الذي سبق وجودها، فالكنعانيون العرب الأوائل حين أرادوا أن يبنوا مدينة القدس الأولى، التي كانت تقع فيما نعرفها اليوم باسم «سلوان» جنوبي المسجد الأقصى المبارك، اختاروا موقع المدينة ليمتد طولياً بين المسجد الأقصى من الشمال وعين سلوان، عين الماء الوحيدة في القدس، من الجنوب، وذلك كان عكس المتعارف عليه في المدن القديمة التي كانت تبنى بشكل دائري حول مصدر الماء (وينطبق حتى على مكة المكرمة التي بنيت حول زمزم)، إلا أن الكنعانيين حين أرادوا تأسيس القدس كانوا بين مسألتين مهمين: فمن جهةٍ المسجد الأقصى المبارك الذي مثَّل لهم الحاجة الروحية، ومن جهة عين سلوان التي مثلت الحاجة المادية للماء، فما كان منهم إلا أن بنوا مدينة القدس الأولى طولياً بين المسجد الأقصى وعين سلوان، وهذا يدل على أنهم كانوا موحدين، ولذلك كان من الطبيعي أن يرحبوا بعد مئات السنين بنبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي لم يكن يحتاج لدعوتهم إلى الإسلام، وهذا ما يتماشى مع النص القرآني الكريم الذي يقول: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 71)، فلم يرد في القرآن الكريم أنه عليه الصلاة والسلام دعا أهل هذه المنطقة إلى التوحيد، لأنهم كانوا موحدين، وكانوا يعمرون المسجد الأقصى المبارك أصلاً، ولهذا عرفوا قيمة أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ورحبوا به في الأرض المقدسة، ليصبح بعد هذه الهجرة إماماً للناس كما نص القرآن الكريم.
فالمسجد الأقصى المبارك هو حجر الرحى في كل هذه القصة، ووضعه في مكانه الطبيعي يجعل الصورة واضحةً سهلة الفهم، فهو مسجد عظيم كان دائماً أصلاً من أصول التاريخ البشري.
____________________
1- هيثم الرطروط، المسجد الأقصى في الآثار القرآنية، مجلة دراسات بيت المقدس، العدد 1، 2005
2- عبدالله معروف عمر، المدخل إلى دراسات بيت المقدس، عمان: مؤسسة الفرسان، 2018.
3- محمد بن عبدالله الزركشي، إعلام الساجد بأحكام المساجد، القاهرة: وزارة الأوقاف، 1996.
4- مصطفى الدباغ، موسوعة بلادنا فلسطين، كفر قرع: دار الهدى، 2002.
(*) أستاذ دراسات بيت المقدس- جامعة 29 مايو- إسطنبول.