كان السؤال في العدد الماضي: هل هذه التسمية المحدثة “الإسلام السياسي” مقبولة من الناحية الشرعية، خاصة بعد أن شاعت في السنوات الأخيرة؟ وهل إدخال السياسة في الإسلام أمر مبتدع، أم هو من الدين الثابت بالقرآن والسُّنة؟
يواصل الشيخ د. القرضاوي إجابته بعد أن أكد أن هذه التسمية مرفوضة، لأنها تطبيق لخطة وضعها خصوم الإسلام، تقوم على تجزئته وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، ويقول: ما يعتبر في الفلسفات والأنظمة المعاصرة “حقاً” للإنسان في التعبير والنقد والمعارضة، يرقى به الإسلام ليجعله فريضة يبوء بالإثم ويستحق عقاب الله من يفرط فيها.
وفرق كبير بين “الحق” الذي يدخل في دائرة “الإباحة” أو “التخيير” الذي يكون الإنسان في حل من تركه إن شاء، و”الواجب” أو “الفرض” الذي لا خيار للمكلف في تركه أو إغفاله بغير عذر يقبله الشرع.
ومما يجعل المسلم سياسياً دائماً أنه مطالب بمقتضى إيمانه ألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصاً المؤمنين منهم، بحكم أخوة الإيمان: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10).
وفي الحديث: “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ناصحاً لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم، وأيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله”.
وكما أن المسلم مطالب بمقاومة الظلم الاجتماعي، فهو مطالب أيضاً بمحاربة الظلم السياسي، وكل ظلم أياً كان اسمه ونوعه، والسكوت عن الظلم والتهاون فيه، يوجب العذاب على الأمة كلها؛ الظالم والساكت عنه، كما قال تعالى: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) (الأنفال: 25).
وقد ذم القرآن الأقوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة، بل جعل مجرد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجباً لعذاب الله، قال سبحانه: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) (هود: 113).
ويحمل الإسلام كل مسلم مسؤولية سياسية؛ أن يعيش في دولة يقودها إمام مسلم يحكم بكتاب الله، ويبايعه الناس على ذلك وإلا التحق بأهل الجاهلية، ففي الحديث الصحيح: “من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية” (رواه مسلم في صحيحه).
الصلاة والسياسة
قد يكون المسلم في قلب الصلاة، ومع هذا يخوض في بحر السياسة، حين يتلو من كتاب الله الكريم آيات تتعلق بأمور تدخل في صلب ما يسميه الناس “سياسة”.
وكذلك من قنت “قنوت النوازل” المقرر في الفقه، وهو الدعاء الذي يدعو به في الصلوات بعد الرفع من الركعة الأخيرة، خصوصاً في الصلاة الجهرية، وهو مشروع عندما تنزل بالمسلمين نازلة، كغزو عدو، أو وقوع زلزال، أو فيضان أو مجاعة عامة.. أو نحو ذلك.
لا أزال أذكر كيف وظف الإمام الشهيد حسن البنا، يرحمه الله، هذا الحكم الشرعي في تعبئة الشعب المصري ضد الإنجليز، حين كتب في صحيفة “الإخوان المسلمون” اليومية يطالب المسلمين أن يقنتوا في صلواتهم ضد الإنجليز المحتلين، واقترح لذلك صيغة يدعي بمثلها، ولم يلزم أحد بها، لكننا حفظناها، وكنا نقنت بها في صلاتنا، ومن هذا القنوت: “اللهم رب العالمين، وأمان الخائفين، ومذل المتكبرين، وقاصم الجبارين، اللهم إنك تعلم أن هؤلاء الغاصبين من الإنجليز قد احتلوا أرضنا، وغصبوا حقنا، وطغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، اللهم رد عنا كيدهم، وفل حدهم، وأدل دولتهم، وأذهب عن أرضك سلطانهم، ولا تدع لهم سبيلاً على أحد من عبادك المؤمنين، اللهم خذهم ومن ناصرهم أو عاونهم أو وادّهم، أخذ عزيز مقتدر..”.
هكذا كنا ندخل معترك السياسة، ونخوض غماره، نحن في محراب الصلاة متبتّلون خاشعون، فهذه هي طبيعة الإسلام، لا ينعزل فيه دين ولا يعرف قرآنه لا سُنته ولا تاريخه ديناً بلا دولة ولا دولة بلا دين.
دعوى أن “لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين”
الذين زعموا أن الدين لا علاقة له بالسياسة من قبل، والذين اخترعوا أكذوبة “لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين” من بعد، أول من كذبوها بأقوالهم وأفعالهم.
فطالما لجأ هؤلاء إلى الدين ليتخذوا منه أداة في خدمة سياستهم والتنكيل بخصومهم، وطالما استخدموا بعض الضعفاء والمهازيل من المنسوبين إلى علم الدين، ليستصدروا منهم فتاوى ضد من يعارض سياستهم الباطلة ديناً والعاطلة دنيا.
لا أزال أذكر كيف صدرت الفتاوى ونحن في معتقل الطور عام 1948 – 1949م، بأننا –نحن الدعاة إلى تحكيم القرآن وتطبيق الإسلام– نحارب الله ورسوله، ونسعى في الأرض فساداً، فيجب أن نُقتل أو نُصلب أو تقطع أيدينا وأرجلنا من خلاف، أو ننفى من الأرض!
ويتكرر هذا في أكثر من عهد، تتكرر المسرحية وإن تغيرت الوجوه.
ولا أزال أذكر –ويذكر الناس– كيف طلب من أهل الفتوى أن يصدروا فتواهم بمشروعية الصلح مع الكيان الصهيوني؛ تأييداً لسياستهم الانهزامية، بعد أن أصدرت الفتوى من قبل بتحريم الصلح معه، واعتبار ذلك خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين!
وما زال الحكام يلجؤون إلى علماء الدين، ليفرضوا عليهم فتاوى تخدم أغراضهم السياسية، وآخرها محاولات تحليل فوائد البنوك وشهادات الاستثمار، فيستجيب لهم كل رخو العود -ممن قلَّ فقههم أو قلَّ دينهم– ويأبى عليهم العلماء الراسخون؛ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ) (الأحزاب: 39).
العدد (1496)، ص59 – 30 محرم 1423ه – 13/4/2002م.