كنت في رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولقيت أعداداً من المسلمين هناك في مؤتمرات ومحاضرات، وفي كل منها ووجهت بسؤال من المستمعين يقول: ما رأيك في مقابلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر لحاخام “إسرائيل” الأعظم؟ ولم أجب عن هذا السؤال بشيء؛ لأني لا أعلم ماذا حدث بالضبط، والمفتي إذا استُفتي في واقعة معينة يجب أن يحيط بتفاصيلها، حتى تكون فتواه صحيحة، وهذا هو الذي يميز بين الفتوى في واقعة خاصة وتقرير الحكم النظري في كتاب يصنف.
ولما عدت إلى الدوحة من رحلتي، بدأت أقرأ بعض ما كتب عن هذه المقابلة التاريخية التي أحدثت ضجة هائلة في العالم العربي والإسلامي، التي يرى فيها الكثيرون من أهل الفكر والعلم أن الصهاينة استطاعوا أن يغزوا الأزهر –معقل الإسلام– في عقر داره، في الوقت الذي تُجمع كل قوى الأمة الإسلامية والوطنية على رفض “التطبيع” الذي تدعو إليه “إسرائيل”، وتحرص عليه، وتجهد كل جهدها في جعله حقيقة واقعة.
وحين قرأت ما قرأت عن هذه المقابلة، وخصوصاً ما كتبه أخي الباحث المدقق د. محمد سليم العوا، وردود الإمام الأكبر على تساؤلات الناس وانتقاداتهم من شتى الاتجاهات، عجبت وأسفت، وحين شاهدت وسمعت لقاء شيخ الأزهر مع قناة “الجزيرة” في قطر ازددت عجباً وأسفاً!
فالقضية من الوضوح بمكان، ولكن حين يلبس الشيطان على الناس، تشتبه عليهم الدروب، ويعيب الحق الأبلج، وينطق الباطل اللجلج.
وأود أن أنبه أن بيني وبين الإمام الأكبر الشيخ طنطاوي مودة قديمة يعرفها، وليس بيني وبينه من الناحية الشخصية أي شيء، إنما هو خلاف في الرأي والمنهج والأسلوب، وقد رددت عليه من قبل في موقفه من الربا وفوائد البنوك.
ورغم أني أخالف الشيخ هنا، وقد خالفته من قبل في قضية الربا، فإني لا أقبل أن يمس شخصه، أو ينال من قدره، بكلمة نابية، أو صورة “كاريكاتيرية” خارجة عن الأدب الشرعي الواجب في حق علمائنا، ولا سيما أنه يتبوأ أكبر وأعرق منصب علمي ديني في العالم الإسلامي، وقد تعلمنا من أدب النبوة: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه”.
وكنت أود من الشيخ الذي اتسع صدره لمقابلة حاخام “إسرائيل” التي هي العدو الأكبر للمسلمين أن يتسع صدره لمخالفيه، ولا يوسعهم ذماً وشتماً، ويصفهم بأقبح الأوصاف من الجبن والعجز والذل والسفه والجهل والسلبية.. إلى آخر هذا القاموس الذي لا يليق بمن كان في منصب الإمام الأكبر أن يستخدمه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الإنسان والحيوان والجماد، وقال: “ما بعثت سبَّاباً ولا لعَّاناً”.
ولم يعف ذلك بعض من سبقوه من شيوخ الأزهر، الذين لقوا ربهم وأفضوا إلى ما قدموا، فوصفهم بما لا يليق من مثله في مثلهم.
ومن أعجب ما قرأت وسمعت: تشكيك الشيخ فيما أجمعت عليه الأمة من رفض “التطبيع”، وقوله: ما معنى التطبيع؟ إنها كلمة “جوفاء” لا معنى لها.
ولم يستطع مقدم البرنامج التلفزيوني –للأسف- أن يشرح له معنى التطبيع الذي تحرص عليه “إسرائيل”، ويرفضه جمهور أمتنا، وهو أن تكون العلاقات بيننا وبين “إسرائيل” ومؤسساتها ورجالها طبيعية، كأن ليس بيننا وبينهم مشكلة، يزورونا ونزورهم، ويستقبلوننا ونستقبلهم، ويبيعون لنا، ونبيع لهم، فلا مقاطعة اقتصادية، ولا اجتماعية، ولا ثقافية، وهذا هو السلاح الباقي في أيدينا نحن العرب والمسلمين.
وهم يسعون بكل قوة لكسر هذا الحاجز الحصين بينهم وبين العرب والمسلمين بأي ثمن، وبأي صورة، وبأي وسيلة.
ومما يذكر للشعب المصري بالفخر أنه رفض تطبيع العلاقات مع الصهاينة برغم اتفاقية “كامب ديفيد”، التي عقدتها حكومة الرئيس السادات، رحمه الله، وكان من بنودها تطبيع العلاقات، فكان “الإسرائيليون” يأتون لزيارة مصر، ولكن الشعب المصري لا يذهب إلى “إسرائيل”، ولا يشتري منهم، ولا يروج لهم شيئاً، ولا تزال القوى الشعبية من الأحزاب والنقابات مصرة على موقفها المشرف.
إن المقاطعة أسلوب فعَّال، استخدمه الناس قديماً وحديثاً في مواجهة خصومهم.
وقد عرفنا في تاريخ السيرة النبوية كيف قاطع مشركو قريش النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، ومن انضم إليهم –عصبية– من بني هاشم وبني المطلب، مقاطعة اقتصادية واجتماعية، وحاصروهم، ولا يزوجونهم، ولا يتزوجون منهم، وقد كانت هذه المقاطعة من أشد ما نزل بالمسلمين من بلاء ثلاث سنين.
وعرف المسلمون المقاطعة بوصفها عقوبة لمن ارتكب ذنباً أو اقترف بدعة أو أساء الأدب، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمقاطعة الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة “تبوك”، فكانوا يسلمون على الناس فلا يردون عليهم السلام، حتى أقاربهم وألصق الناس بهم، إلى أن تاب الله عليهم، ونزل فيهم قرآن يصف حالتهم النفسية، فقال تعالى: (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ) (التوبة: 118).
وألَّف الحافظ السيوطي رسالة سماها “الزجر بالهجر”، ذكر فيها أمثلة عديدة من هذا اللون.
فإذا كان هذا بين المسلمين بعضهم وبعض، فكيف يكون الأمر بينهم وبين من يعاديهم ويحاربهم ويتحداهم، ويعتدي على مقدساتهم ويغتصب أرضهم، ويزداد كل يوم عتواً واستكباراً؟!
إن المقاطعة بكل صورها، ورفض التطبيع مع القوم؛ سلاح مهم من أسلحة الحرب الطويلة بيننا وبين “إسرائيل”، ينبغي أن نحافظ عليه، وأن نبقيه مشحوذاً صارماً، لا أن نسعى إلى فله وكسره، ومن هنا كانت خطورة زيارة الحاخام للإمام الأكبر، إنها كسرت الحاجز وفلت السلاح، وأضعفت المقاومة الصلبة، والمقاطعة الحاسمة.
ولقد قال شيخ الأزهر: ما المانع من لقاء رجل دين برجل دين آخر يهودي أو نصراني؛ للحوار في أمور دينية؟
ونقول للشيخ: أي حوار ديني بيننا وبين القوم؟ هل النزاع القائم بيننا وبينهم نزاع على أمور العقيدة حتى نحاورهم في أمور الألوهية والنبوة والآخرة؟ أو النزاع على قضية أخرى غير العقيدة، في قضية اغتصاب الأرض وتشريد أهلها، ومحاولة ابتلاع ما بقي منها، وتهديد القدس الشريف، وهدم المسجد الأقصى؟
هذه هي القضية يا شيخناً، وهي لا تحتاج إلى حوار الشيخ والحاخام، إنما تحتاج إلى حوار رجال السياسة ورجال السلام، وأنت باعترافك لست منهم.
إن لكل مقام مقالاً، والمقام هنا ليس مقام الحوار مع رجال الدين، بل مقام الجهاد مع رجال القوة، أو المفاوضة بشروطها مع رجال السياسة.
وقد استدل الشيخ الأكبر بلقاء النبي صلى الله عليه وسلم مع يهود بني قينقاع، ويهود بني النضير، وهذا صحيح، ولكنه استدلال في غير موضعه؛ لأنه حين ذهب إليهم كان بينهم وبينه معاهدة معروفة، فذهب يطالبهم بالوفاء بعهودهم معه، ولكنهم قابلوه بالغدر، فنصب لهم الحرب، التي انتهت بجلاء بني قينقاع، وإجلاء بني النضير.
فلم يذهب إليهم ليحاورهم في الدين، أو ليحاوروه في الدين، إنما ذهب لأمر من أمور السياسة، التي يقوم بها بوصفه إماماً للأمة، ورئيساً للدولة، فهو يمارس صلاحياته السياسية، فأين هذا مما وقع بين الشيخ والحاخام؟
ومما استدل به الشيخ: ما جاء في التعامل مع أهل الكتاب، حتى إن القرآن أجاز مؤاكلتهم وأباح مصاهرتهم، أي التزوج من نسائهم.
ونسي الشيخ أن أهل الكتاب في النظر الشرعي ثلاثة أقسام: ذميون، ومعاهدون، وحربيون، ولكل منهم أحكامه الخاصة.
فالذميون منهم من أهل دار السلام، أي المواطنون من غير المسلمين الذين لهم ما لنا وعليهم ما علينا في الجملة.
والمعاهدون الذين بيننا وبينهم عهود اتفاقيات، وهم ليسوا من أهل دارنا، فيوفَّى لهم بعهودهم.
والحربيون هم الذين قامت الحرب بيننا وبينهم، وهذا هو واقع الحال بيننا وبين “الإسرائيليين”، فهم حربيون باتفاق الأمة، وهم الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 9).
فهؤلاء لا حوار بيننا وبينهم إلا بلغة واحدة هي لغة السيف والقوة، قال تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ {190} وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (البقرة).
المشكلة في استدلالات الشيخ ومن وافقوه أنهم يستدلون بالعموميات ويغفلون عن مخصصاتهم، ويحتجون ويهملون مقيداتها، ويستشهدون بالأقوال وينسون سباقها وسياقها، ويتحدثون عن أهل الكتاب وكأنهم كلهم فئة واحدة، ويتحدثون عن حالة الحرب والعداوة وكأنها حالة السلم والمودة.
لقد رفض الشيخ أن يذهب إلى زيارة القدس ويصلي في المسجد الأقصى إذا كان دخوله إليها عن طريق تأشيرة تمنحها “إسرائيل”، إلا أن تكون السلطة الفلسطينية هي التي تعطيه التأشيرة، وهذا موقف يسجَّل له، وهو مبني على فقه صحيح، فلماذا لم يقل هنا: إن الصلاة في المسجد الأقصى مشروعة، وقد جاء في الحديث الصحيح: “شد الرحال إلى المسجد الأقصى”؟
وقال الشيخ: إنه أيَّد قرار وزير العدل الفلسطيني بتحريم بيع الأرض الفلسطينية لغير الفلسطينيين، وهو قرار سليم بلا ريب، فلماذا لم يحتج هنا بأن الله تعالى قال: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275).
ذلك أن الفتوى الصحيحة لا بد أن تدخل في اعتبارها ظروف الزمان والمكان والحال، ولا تصدر الحكم مقطوعاً عن ملابساتها.
ولو مشينا مع الشيخ في الاستدلال بمنطلق ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لأمكننا أن نستدل بتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود حتى آخر حياته، فقد استلف من يهودي ثلاثين وسقاً من شعير في نفقة أهله، ورهنه درعه ضماناً لذلك، ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند اليهودي، وهذا حديث متفق عليه.
يمكن أن يستدل مستدل الحديث لإبطال المقاطعة الاقتصادية لـ “إسرائيل” وينسى أن هذا اليهودي الذي عامله النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن محارباً.
وقد سأل مذيع قناة “الجزيرة” الإمام الأكبر: هل تجيز للفلسطيني الزواج من يهودية “إسرائيلية”؟ فقال له: هل أُحرِّم ما أحلَّه الله؟ الله تعالى في كتابه أباح ذلك، وتلا عليه الآية الكريمة من سورة “المائدة”: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ) (المائدة: 5).
ونسي الشيخ أن هذا في غير الحربيين، وقد جاء عن ترجمان القرآن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا تحل نساء أهل الكتاب إذا كانوا حرباً “أي على المسلمين”، وتلا هذه الآية: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة: 29).
ومعنى كلام ابن عباس: أن الله تعالى أمرنا بقتالهم، ومقتضى المصاهرة أن تكون زوجتك منهم، وأحماؤك منهم، وأجداد أولادك وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم منهم، وهؤلاء لهم حقوق الأرحام وذوي القربى من الصلة والمودة، والإسلام يوجب قطيعتهم، ويحرّم من موالاتهم وموادتهم.
ونقل أبوبكر الرازي “الجصاص” في “أحكام القرآن” عن الحكم قال: “حدثت بذلك – يعني: بكلام ابن عباس– إبراهيم “أي النخعي” بأعجبه.
قال أبوبكر: ومما يحتج به لقول ابن عباس قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (المجادلة: 22)، والنكاح يوجب المودة بقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21)، فينبغي أن يكون نكاح الربيات محظوراً، لأن قوله تعالى: (يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، إنما يقطع على أهل الحرب، لأنهم في حد غير حدنا، (أحكام القرآن ج3/326 نشر دار الكتاب العربي – بيروت).
وهو توجيه قوي لا غبار عليه، ومن هنا يكون من يتزوج “إسرائيلية” أو يهودية اليوم يرتكب محرماً، فكأنه يدخل بيته جاسوسة لـ “إسرائيل”.
وكنت أود من مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر -ولا بد أن فيه ثلاثة أو أربعة أو أكثر من رجال الفقه- أن يكون موقفه أبصر من هذا وأقوى، وأن يناصر الشيخ بتصويبه إن أخطأ الصواب، فكل إنسان يؤخذ من كلامه ويترك، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، فالحق فوق كل اعتبار، قد قال أبوبكر رضي الله عنه في أول خطبة له بعد الخلافة: إن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فسددوني.
كما أحيي جبهة علماء الأزهر عن موقفها الشجاع في قول الحق، وإنْ هوَّن الشيخ من أمرها، وقال: إنهما شخصان كلاهما من تلاميذه! وربما يقصد رئيسها وأمينها العام.
ولا يضير الرجل الكبير شيئاً أن ينزل أحياناً على رأي تلاميذه، فقد يخطئ الشيخ ويصيب تلميذه، وليس في العلم كبير، وفوق كل ذي علم عليم.
وقديماً وقف عالم صغير أمام عالم كبير، فنقده في بعض قوله، فكأنما أنكر عليه ذلك، فقال: إن كنت كبيراً فلست أكبر من سليمان، وإن كنتُ –أنا– صغيراً، فلست أصغر من الهدهد، وقد قال لسليمان: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (النمل: 22).
كنت أود من الشيخ الأكبر أن يرفض لقاء الحاخام، ولا يحقق له أمنيته في اقتحام الأزهر، ويرجعه خائباً مغيظاً، فإن “غيظ الكفار” المحاربين من أهداف المسلم، ومما نوه به القرآن الكريم، فقد قال تعالى: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (الفتح: 29)، (وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ) (التوبة: 120).
وأن يقتدي بذلك الصحابي المجاهد الذي وقع في أسْر الروم، فحبسه قائدهم، يريد إذلاله ومنع عنه الطعام أياماً، ثم جاء به ووضع أمامه لحماً، فسأل: أي لحم هذا؟ فقيل له: لحم خنزير، فقال: للملك أو للقائد الرومي: أما والله إني لأعلم أن الله تعالى أحلَّه لي للضرورة، ولكن لن أقرّ عينك بالأكل منه! وأبى أن يأكل، حتى منَّ الله عليه بالفكاك من الأسْر، لقد قال الشيخ: إن الحاخام رجاه أن يقابله، فلم ير بأساً في مقابلته، وكنت أتمنى ألا يحقق له رجاءه، فهو سيستغل هذه الزيارة لصالحه وصالح قضيته، والأزهر أولى المؤسسات ألا يمكّن الصهاينة من استغلاله بالحق أو الباطل.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.