روى الزمخشري في «ربيع الأبرار» أن عبدالله بن طاهر، أحد قادة الخليفة المأمون، قال: كنت عند المأمون ثاني اثنين، فنادى: يا غلامُ، يا غلام، بأعلى صوته، فلم يجبه الغلام، ثم نادى ثانياً، فدخل غلامٌ تركيٌّ فقال: أيُمْنَع الغلامُ أن يأكلَ ويشربَ أو يتوضأَ ويصلي؟ كلما خرجنا من عندك تصيحُ يا غلام، يا غلام! إلى كَمْ يا غلام، يا غلام؟! فنكَّس المأمونُ رأسَه طويلاً، فما شككتُ أنه يأمر بضرب عنقه، فقال: يا عبد الله، إن الرجلَ إذا حسُنَتْ أخلاقُه ساءتْ أخلاقُ خَدَمه، وإذا ساءت أخلاقُه حسُنت أخلاق خدمه، فلا نستطيع أن نسيءَ أخلاقَنا لتَحْسُنَ أخلاقُ خَدَمِنا.
وهذا المشهد على قصره، إلا أن به جملة من الفوائد؛ فهو من ناحية يسرد طبيعة الملوك المسلمين، وأنهم وإن دانت لهم الدنيا إلا أنهم مهذبون بأدب الإسلام ومروءة العرب وعزة الفتوحات الإسلامية القريبة.
وفيه أيضاً أنه ليس شرطاً أن يكون الانتصار للنفس على حد القدرة، فلو انتقم كل أحد ممن هو قادر على إيذائه لما بقي على الأرض من أحد، ولهذا أحب الله الحلم والأناة؛ لأن فيهما سبباً لاستمرار الحياة، وأدوم على الألفة ومحاسن الأخلاق.
الأمر الثالث؛ وهو ما وقر في نفس الغلام من عفو سيده وصفحه الذي جرّأه على قول ذلك في حضرة أحد قواه واعتياده على فعل ذلك دون رد أو زجر، فإن غرس هذه الطمأنينة في قلوب الناس لها عظيم الأجر، ولو كان ما فيها من عدم منازعة الله في خوف عباده منه لكفى، كما أنها مدعاة للحب المستقر الكامن وإن أبدى اللسان تسخطاً وتبرماً.