انتهى موسم الحج، بل بدأنا في وداع شهر ذي الحجة، وعاد الحجاج لبلادهم ومنازلهم، يحملون الهدايا لذويهم وأصدقائهم، ويحملون أيضًا تلك الثمرات التي جنوها من حجهم، فكما أن لكل عبادة ثمرة، فإن للحج ثمرة، بل ثمرات أشهى وأحلى من كل فاكهة الدنيا، ولكنها ثمرات يجنيها القلب، وتتلذذ بها الروح، وهي أهم ما يعود به الحاج من عند بيت الله الحرام، ومن هذه الثمرات:
– تحقيق العبودية لله تعالى: والعبودية هي الاستسلام لأمر الله راضيًا مختارًا، غير كاره ولا ساخط.
العبودية هي إن ابتلاك الله ببلاء صبرت ورضيت، وإن أنعم عليك بنعمة صبرت وشكرت، صبرت على النعمة فلم تتحول بسببها للطغيان، والتعدي على حرمات الله، وشكرت ربك فجعلت النعمة لله تعالى راضيًا بذلك، إن ابتلاك بمرض، بفقر، بفقد، أو غيره، صبرت راضيًا، لا ساخطًا.
ويتعلم الحاج ذلك من مناسك الحج، فعندما يصل الحاج للمكان الذي أسلم فيه إبراهيم عليه السلام لله تعالى، وطرح فلذة كبده فيه على الأرض ليذبحه، واستسلم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لأمر الله سبحانه، عندها كانا قد استجابا لأمر الله حقًا، فجاءهما الفرج، وكسبا الأجر، وزيادة من الله تعالى لهما.
– تحقيق وحدة الأمة: فإن الحاج عندما يذهب للحج يشعر بأن الأمة كلها معه، تلبية واحدة، ومناسك واحدة، ولباس واحد، كل هذا لعبادة رب واحد، وعلى ملة واحدة، وبهدي واحد، سبحان الله، فالذي وحَّد كل ذلك سبحانه يريد منا أن نكون أمة واحدة، أمة متماسكة، يعطف بعضها على بعض، وينتصر بعضها لبعض، ويغضب بعضها لبعض، ويفرح ويحزن بعضها لبعض.
فليست الوحدة في أسبوع الحج وفقط، بل هي وحدة دائمة بدوام الأمة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ (المؤمنون: 52)، تلك الوحدة التي نادى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن بعثه الله تعالى، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ»، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ (مسند أحمد، 23489).
ولا ننسى كيف آخى بين المهاجرين والأنصار، وكيف جعل بلالًا سيدًا على العرب، بعد كونه عبداً حبشياً، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: «أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلَالًا» (رواه البخاري، رقم 3754)، كل هذا يشعر بوحدة الأمة، وكون الحاج يرى هذا الجمع الفيف يشتاق لوحدة الأمة.
– تذكر القيامة والموقف بين يدي الله تعالى: فالحاج بلباسه الأبيض، الذي يشبه الكفن، وعند نوم الحجاج بجوار بعضهم بلباس حجهم تنظر إليهم كما تنظر للموتى في قبورهم، والجمع الغفير والزحام الشديد، والموقف الواحد، كل هذا يذكرنا بالحشر، وبالوقوف بين يدي الله تعالى، فمن حشرك اليوم في هذا الموقف برضا نفسك، سيحشرك غداً غصباً عنك، سيحشرك وأنت مستسلم منقاد له سبحانه، ومن تذكر هذا سارع بالتوبة، والإنابة، والرجوع إلى الله تعالى، ورد مظالم العباد، وهذا من أعظم ثمرات الحج.
– تعظيم حرمات الله تعالى في قلب العبد: فمن يعظم الشعائر، ويسعى بقلبه قبل جوارحه إلى الله تعالى يحرم لله متحريًا الميقات، ويسعى بين الصفا والمروة كما يؤدي الصلوات، ويقف بعرفة في تمام الميقات، وينام ويبيت بمنى ويستجيب لرمي الجمرات، وينحر ويطوف طواف الإفاضة، بل وكما أُمِرَ يحلق الشعرات، حري بهذا أن يعظم الحرمات، وكما يطيع الله علنًا يطيعه في الخلوات، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ (الحج: 30)، ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾(الحج: 32).
– التواضع وحب الفقراء: فإن من ثمرات الحج التواضع، فالحاج يبيت كما يبيت الفقراء، ويؤدي النسك مع الفقراء سواء بسواء، لا فرق بين غني وفقير، ولا وزير وخفير، فهذا يورث التواضع.
ومن النسك أن يجلس للحلاق ويحلق شعره، ترى لِمَ هذا النسك بالذات؟! هكذا أراد وأمر الله تعالى، ليشعر الناس بالتواضع، وأنهم سواسية أمام الله تعالى، ثم ينحر الحاج هديه ليطعم الفقراء، فإذا كان الله تعالى فرض عليه ذلك لأجل الفقراء، إذن هو يحب الفقراء، ومن هنا وجب عليه أن يحب من أحبهم الله تعالى، فتلك ثمرة من ثمرات الحج.
– القيام بواجب الدعوة إلى الله والتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن رأى تلك البقاع التي بدأت منها الدعوة إلى الإسلام، واستشعر المتاعب والمصاعب التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، والدماء التي ذرفوها لأجل وصول الدعوة إلينا، سيعلم وجوب الدعوة مع سهولتها في زماننا، فقد يدعو أحدنا إلى الله اليوم وهو متكئ على أريكته، فأنى له أن يقصر فيها، وقد علم أنها كانت من آخر وصايا الحبيب صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ -أَوْ بِزِمَامِهِ- قَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا.. لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ» (رواه البخاري، 67).
تلك بعض ثمرات الحج، وما حج من لم يحقق ثمرته.