تتزاحم التساؤلات وتكثر القضايا وأنت تحاور فضيلة العلاَّمة الشيخ يوسف القرضاوي لحضوره القوي ومعايشته الدائمة لقضايا الأمة؛ وذلك ما يثري الحوار ويجعل المتابع يتطلع دائماً للاستماع إليه نهلاً من علمه وسعياً إلى كلماته.
“المجتمع” التقته في القاهرة خلال زيارته لها وافتتاحه المقر الجديد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين؛ حيث حاورته عن حصاد عامين من عمر هذا الاتحاد، وحصاد أكثر من عشر سنوات من عمر المجلس الأوروبي للإفتاء، ودور مثل هذه المؤسسات المهمة في إثراء الفكر والفقه الإسلامي وتبني قضايا المسلمين.. كما دار الحوار عن حملة الإساءة من بعض الصحف الغربية للنبي صلى الله عليه وسلم، وردود الفعل القوية في العالم الإسلامي ورؤية فضيلته لما جرى.. كما دار الحوار بالطبع حول رؤية فضيلته في إطار ذلك كله، لواقع المسلمين ومستقبلهم.
لو تحدثنا عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وبمناسبة افتتاحكم لفرع القاهرة، هل قدم الاتحاد ما كنتم تأملون حينما أطلقتموه، وقد قارب العامين منذ إنشائه؟ وما العقبات التي تقف في طريقه؟ وكيف السبيل إلى حلها؟
– التفكير في هذا المشروع بدأ عام 1980م بفكرة من د. علي فخرو الذي كان يشغل وقتها منصب وزير المعارف في البحرين، تحدث بشأنها معي ومع أخي د. سليم العوا، وظللنا نمهد له وندعو له حتى خرج للنور عام 2004م، بعد أكثر من 20 عاماً، وقد تم تأسيسه بهدف الحفاظ على هوية الأمة، والوقوف في وجه التيارات الهدامة، من خلال تثقيف وتوعية الأمة لتعرف دورها ورسالتها، وتوجيه النصح لقادة وحكام المسلمين.
وهو اتحاد إسلامي يتكون من علماء مسلمين، ويعمل لخدمة الإسلام وأمته، ويستمد منهجه من الإسلام، ويستهدي به في كل خطواته، وهو يمثل المسلمين بكل مذاهبهم وطوائفهم، ويمتاز بأنه عالمي، شعبي، مستقل، علمي، دعوي، وسطي، يمثل المسلمين في العالم كله، وهو ليس مؤسسة رسمية حكومية، لكنه لا يعادي الحكومات.
كما أنه اتحاد مستقل لا يتبع دولة من الدول ولا جماعة من الجماعات، ولا طائفة من الطوائف، ولا يعتز إلا بانتسابه إلى الإسلام وأمته، ويمتاز بالوسطية؛ فلا يجنح إلى الغلو والإفراط، ولا يميل إلى التقصير والتفريط، وإنما يتبنى المنهج الوسط للأمة الوسط، وهو منهج التوسط والاعتدال، مهمته أن يعبر عن ضمير الأمة وعن روحها حين يتقاعس الرسميون، وتحجزهم الحواجز، وتوقفهم الاعتبارات.
ومن أهدافه تعبئة الشخصية الإسلامية الفردية والجماعية، وتهيئتها لتقوم برسالتها في عبادة الله تعالى، وعمارة الأرض، وخلافة الله تعالى، وتوحيد جهود العلماء ومواقفهم الفكرية والعلمية، في قضايا الأمة الكبرى، وتجميع قوى الأمة على اختلاف مذاهبها، واتجاهاتها، ما داموا من أهل القبلة، والسعي إلى تضييق نقاط الافتراق، وتوسيع نقاط الاتفاق، والتركيز على القواسم المشتركة.
وهو يعمل ويتحرك في حدود إمكاناته، ولا ننسى أنه ما زال في بدايته، ولم يستكمل كل أجهزته، ولم يفتتح كل فروعه، ولم يستكمل الاتصال بالمنظمات والمؤسسات الإسلامية، ليس له موارد ولا يتلقى أي معونات مشروطة من أي جهة.
ودوره واضح في خدمة قضايا الأمة، وخاصة في المواقف والقضايا الكبرى، وقد ظهر ذلك جلياً في أزمة دارفور، وفي الحد من تطور فتنة السُّنة والشيعة بالعراق، وفي أزمة الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وفي دعم الشعب الفلسطيني.. وغيرها كثير.
وماذا عن مؤتمر الأزهر الأخير؟ وهل خرج المؤتمر بتوصيات؟
– جئت أيضاً لحضور الملتقى الدولي الأول لخريجي الأزهر، الذي عقد بالقاهرة خلال يومي الحادي عشر والثاني عشر من أبريل الماضي، وشارك فيه قرابة 400 من أشهر خريجي الأزهر في الملتقى، على رأسهم د. مأمون عبد القيوم، رئيس دولة المالديف، والشيخ عكرمة صبري، مفتي القدس، والشيخ محمد علي الجوزو، مفتي جبل لبنان، ود. حارث الضاري، رئيس هيئة علماء المسلمين بالعراق، ود. علي القره داغي، أستاذ أصول الفقه بجامعة قطر، ود. شعبان موباجي، مفتي أوغندا.
ومما خرجنا به من الملتقى أن اقترحنا فكرة لإنشاء رابطة عالمية للأزهريين في العالم، يكون مقرها مصر، البلد التي يقام الأزهر بين جنباتها، كما طالبنا بأن يكون هناك موقع عالمي للأزهر على شبكة الانترنت ومجلة عالمية تصدر بلغات مختلفة، وقلت وأكرر أن علماء الأزهر إذا تعاونوا فيما بينهم يمكنهم الوقوف أمام التيارات والأخطار التي تهدد الأمة الإسلامية.
وتم الاتفاق على إنشاء لجنة تأسيسية تضم 6 أعضاء، يرأسها د. أحمد الطيب، رئيس جامعة الأزهر، مهمتها إعداد الهيكل الأساسي للرابطة واتخاذ الإجراءات اللازمة لإنشائها، إضافة إلى اقتراح آليات لفتح فروع لها بالدول التي يوجد خريجون للأزهر.
وهل فضيلتكم راضٍ عما آل إليه حال الأزهر؟
– هناك ملاحظات كثيرة على دور الأزهر، وهو بحاجة إلى إعادة النظر في مناهجه التي تخرج الدعاة للعالم، ولكن رغم القصور الذي يعتريه، سيظل قلعة شامخة، ولا تحتاج سوى من يستعيد له عالميته ودوره الريادي في العالم كله.
بوصفكم رئيساً للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، هل استطاع المجلس –بعد كل هذه السنوات– أن يصبح مرجعية فقهية ودعوية لمسلمي أوروبا؟
– المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث هيئة إسلامية متخصصة مستقلة، يتكون من مجموعة من العلماء، تأسس في العاصمة البريطانية لندن، في 30 مارس 1997م، بدعوة من اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، مقره الحالي مدينة دبلن بالجمهورية الأيرلندية.
وقد أنشئ بهدف إيجاد التقارب بين العلماء بالعواصم الأوروبية، والعمل على توحيد الرأي فيما يبنهم حول القضايا الفقهية المهمة، وإصدار فتاوى جماعية تسد حاجة المسلمين في أوروبا وتحل مشكلاته، في ضوء أحكام الشريعة ومقاصدها، كما يهتم المجلس بإصدار البحوث والدراسات الشرعية، التي تعالج الأمور المستجدة على الساحة الأوروبية، والعمل على ترشيد المسلمين في أوروبا عامة وشباب الصحوة خاصة، وذلك عن طريق نشر المفاهيم الإسلامية الأصيلة والفتاوى الشرعية القويمة.
والمجلس يشكل لجاناً متخصصة من بين أعضاء المجلس، يعهد إليها القيام ببعض الأعمال والمهام، وهو يعتمد على المراجع الفقهية الموثوق بها، ويسعى جاهداً للاستفادة من الفتاوى والبحوث الصادرة عن المجامع الفقهية، كما يقوم المجلس ببذل المساعي لدى حكومات الدول الأوروبية للاعتراف بالمجلس رسمياً، والرجوع إليه لمعرفة أحكام الشريعة الإسلامية.
كما يعنى المجلس بإقامة دورات شرعية لتأهيل العلماء والدعاة، وعقد ندوات لدراسة الموضوعات الفقهية المعاصرة، ويصدر المجلس النشرات والفتاوى الدورية وغير الدورية، ويقوم بترجمة الفتاوى والبحوث والدراسات إلى اللغات الأوروبية، ويصدر مجلة باسم المجلس تنشر فيها مختارات من الفتاوى والبحوث والدراسات التي يناقشها.
والمتغلب على تباعد انعقاد الاجتماع الدوري للمجلس، وانشغاله في اجتماعاته بمناقشة القضايا الأكثر أهمية، ورغبة في تلبية حاجة عموم المسلمين في أوروبا والتعجيل بإجابة استفتاءاتهم، أسس المجلس في دورته الثانية لجنتين فرعيتين للفتوى؛ إحداهما في فرنسا، والأخرى في بريطانيا، كما أنشأ لجنة للبحوث والدراسات تتولى إصدار مجلة المجلس، كما تهتم بالبحوث والدراسات التي تعين المجلس على إصدار قراراته وفتاواه.
والنظام الأساسي للمجلس ينص على أنه لا يحق لرئيس المجلس ولا لأي عضو من أعضائه أن يصدر الفتاوى باسم المجلس ما لم يكن موافقاً عليها من قبل المجلس، ولكل منهم أن يفتي بصفته الشخصية، على ألا يذيل فتواه بصفة عضو المجلس الأوروبي للبحوث، أو أن يكتبها على أوراق المجلس الرسمية.
أما عن تقييمي لعمل المجلس، ومسألة المرجعية، فإلى حد كبير أصبح المجلس مرجعية لعدد كبير وجمهور غفير من مسلمي أوروبا، ومما عاق كونه المرجع الوحيد للمسلمين بأوروبا، أن هناك تيارات متشددة وأخرى متفرنجة، أما نحن –في المجلس– فنمثل تيار الوسطية، وهو تيار جمهور الأمة، ومن ثم فإن الجمهور الأعرض من مسلمي أوروبا يعتبرونه اليوم مرجعاً فقهياً أساسياً لهم.
ليس ذلك وحسب، بل إن عدداً كبيراً من الباحثين في الغرب يحضرون للمجلس، ويسجلون الدراسات والبحوث عن المجلس وجهوده، وهناك رسائل ماجستير ودكتوراة في أكثر من بلد تتحدث عن المجلس ودوره وفتاواه، فقد قطع المجلس شوطاً كبيراً، وأصبح له عدد من الفتاوى، وأصدر عدداً من المجلات العلمية، وصار له قرارات فقهية معتبرة، كما كان له دور ملحوظ في توحيد صف المسلمين ولم شملهم.
تابعنا وتابع العالم كله أزمة الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثار المسلمون، وانتفضت الشعوب المسلمة هنا وهناك، ودعوتم الشعوب الغاضبة إلى “غضب عاقل”، فهلا تفضلتم بتوضيح المقصود بالغضب العاقل؟
– لا شك أن ما حدث من إساءة للرسول صلى الله عليه وسلم أمر مرفوض، وفعل مبغوض، ترفضه الأديان السماوية، والقوانين الدولية، والعقول الذكية، وقد بينا للناس وقتها أن ما حدث لا يمت بصلة إلى الحرية، وإنما هو اعتداء على المقدسات وتطاول على الأنبياء.
ولأن الاقتصاد لبن الأم للسياسة كما يقولون، فقد دعونا الشعوب المسلمة الثائرة إلى غضب عاقل؛ أي فاعل ومؤثر، وهو المقاطعة الاقتصادية للبضائع والمنتجات الدنماركية، وقد استجاب لهذه الدعوات جمع كبير من التجار والمستوردين ورجال الأعمال المسلمين الغيورين، وقد تألمت المصانع والشركات الدنماركية؛ حتى إن شركة واحدة هي شركة “آرلا” وهي من كبريات الشركات العاملة في مجال الألبان والأجبان اعترفت بأنها كانت تخسر مليون دولار يومياً.
وهو ما دعاها للاعتذار العلني في كبريات الصحف، فالغرب لا يعرف المقدسات ولا يؤمن سوى بالمادة، وقد حركت هذه الأزمة الإيمان الراكد في قلب الأمة، وأيقظتها من سباتها، فإذا كانت السياسة قد مزقتها، فإن الأزمات والملمات وحَّدتها وجمعتها، فرب ضارة نافعة.
ماذا تقصدون بقولكم: “رب ضارة نافعة”؟
– نعم، “رب ضارة نافعة”، فلو أننا أنفقنا ملايين الدولارات، وكتبنا آلاف المقالات، وألقينا مئات الخطب والدروس، ما كنا لنحقق للدعوة ما تحقق من معرفة وانتشار، فقد بات العالم في أوروبا يسأل عن الإسلام وعن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يحبه أتباعه كل هذا الحب، وقد أمدت الأزمة المسلمين في الغرب بمد روحاني، ودفع إيماني.
ولكن الدرس المستفاد من هذه المحنة أنه حينما تكون الأمة في نوم عميق فإنها لا تستيقظ بالهمس، وإنما تحتاج إلى صيحة قوية وصرخة مدوية، فالهمس لا يوقظ نائماً مستغرقاً، بل لا بد من صيحة، ومن ثم فقد كان لا بد من رد قوي يناسبها فجاءت المقاطعة لتوحد الشعوب وتظهر جانباً كان خافياً من قوة الأمة.
أما الحكومة الدنماركية فقد عميت وصمت، ولم تستمع للمسلمين ولم تعتذر حتى الآن، وموقفها من الأزمة كان رديئاً وسيئاً، فهي حكومة مسيحية متطرفة، وللأسف حتى الشعب لم يخالف رأي الحكومة، ولم يعارضها، بل استسلم وأيدها في غيها وكبرها.
ما تفسيركم للانتصارات التي حققها الإسلاميون في الانتخابات البرلمانية في عدد من البلدان مؤخراً؟
– الشعوب تريد الإسلام، وتتعطش لأن تحكم به بعدما ملت من استعبادها دهراً طويلاً تحت نير الاستبداد والدكتاتورية البغيضة، وكلما أتيح للشعوب المسلمة الفرصة في ظل انتخابات حرة ونزيهة فلن تختار غير الإسلام حاكماً، ولن ترضى بغير القرآن دستوراً.
الفتنة تطل برأسها في العراق والهرج والقتل على قدم وساق هناك، ولا يكاد يكون هناك شارع في بغداد إلا وهو مخضب بدماء العراقيين، بينما يحاول البعض أن يختزل الأمر ويصوره على أنه قتال بين السُّنة والشيعة، ويردد مقولة: إن الاحتلال لو خرج من العراق فستشتعل النار وأنه هو الذي يحفظ وحدة العراق، ما رأيكم؟
– لو سألنا أنفسنا: من المستفيد من إشعال نار الطائفية بالعراق؟ لعرفنا أن الذي يقف خلف هذه الحرب الأهلية المصطنعة هو قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني، يشعلون نار الفتنة ليبرروا لأنفسهم البقاء في العراق، وكل ما يحدث في العراق من قتل وخطف واعتداء على المساجد هو من تدبير وتخطيط الاحتلال الذي دمر العراق وأباد شعبه ونهب ثرواته وخيراته، وهو يفعل ذلك ذريعة ليمدد لنفسه لا في العراق وحسب، بل في قلب الأمة العربية كلها.
_______________________________
العدد (1700)، ص16-19 – 8 ربيع الآخر 1427ه – 6/5/2006م