في الغرب ساهمت السينما والأعمال الدرامية في التخديم على نشر القيم التي يطمح إليها صانع القرار، أو حتى التي تعارض سياسة صانع القرار.
مؤخراً شاهدت فيلماً تحت عنوان «The Company men»، ميزانيته 15 مليون دولار في حين أن إيراداته بلغت 4882577 دولاراً، والفيلم مصنف تحت فئة الدراما، ويعالج التأثير الاجتماعي للأزمة المالية العالمية التي خرجت من رحم الرأسمالية الأمريكية، عقب انهيار سوق الرهن العقاري، وطالت معظم دول العالم، بما فيها دول منطقة الشرق الأوسط.
اللافت أن هذا العمل الذي يعالج الواقع بالفعل ويرصد المشكلات التي انبثقت من الأزمة المالية العالمية التي اجتاحت العالم في عام 2008م من منظور اجتماعي، في قالب درامي مشوق، فيه من التسلية على المواطن الموجوع من طرده من عمله، وفيه سلوى للزوجات اللاتي عانين من قلة الدخل والبطالة، وفيه تسليط للضوء على جشع بعض أصحاب الشركات، وفيه أيضاً تحذير مبطن لمتخذ القرار من مغبة تكرار هذه الأزمة التي تهدد أركان المجتمع!
اللافت أيضاً أن هذا الفيلم سبقه عدة أفلام تعالج ذات القضية، وتلاه عدة أفلام تعالج نفس القضية مع التركيز على أسباب الأزمة بالشرح والتفسير، وفي كل هذه الأفلام استعان المنتجون بنجوم شباك هوليوود، ولعل من أبرز تلك الأفلام: فيلم «Global Financial Crisis»، وفيلم «The big short»، وفيلم «Margin Call»، وفيلم «Too Big To Fail»، وفيلم «Capitalism»، وفيلم «Inside Job»، وفيلم «I.O.U.S.A»، وروعة الأخير تكمن في أنه أنتج قبل نشوب الأزمة وتوقعها وتوقع نتائجها استناداً إلى التوسع في سياسة الاقتراض التي تبنتها الولايات المتحدة.
المثير أن هذه الأفلام وغيرها من الأعمال السينمائية والوثائقية التي عالجت قضية الرهن العقاري وما أحدثته من أزمة مالية عالمية تنوعت ما بين الدراما والكوميديا والإثارة، وبعضها ركز على الجوانب الاجتماعية، وبعضها ركز على الجوانب الاقتصادية، وبعضها ركز على تفهيم المجتمع بطبيعة الأزمة وأسبابها مستخدماً أرقاماً وإحصاءات وشهادات من متخصصين، ودور البنوك الكبرى، وبعض الأنظمة الحكومية في الأزمة وغيرها من الجوانب الأخرى.
جل هذه الأفلام حقق إيرادات عالية جداً، ورسخ قيماً اجتماعية واقتصادية وعلمية رائعة، فكانت شاهداً على دور الفن في حلحلة مشكلات المجتمع، ونموذجاً رائداً في تعزيز رسالة الفن من منظور أصحابه، وذلك على عكس الأعمال التي تنتج في منطقتنا العربية، فهي تحمل قيماً لا شك، لكنها قيم لا تنسجم مع عاداتنا ومعتقداتنا، ولا تساهم إلا في مزيد من الانحلال الاجتماعي والقيمي، والحل -برأيي- مقاطعة الأعمال التي تتعارض مع قيمنا وعاداتنا الأصيلة للتضييق على أصحابها وإجبارهم على تعديل المسار!
ولا أنسى في هذا الصدد تجربة الشاعر والأديب والطبيب الألماني برتولت بريخت، الذي أسس لنظريات جديدة في العمل المسرحي، وكانت فلسفته ترتكز على «المتلقي» أو «المشاهد»، فهو العنصر الأهم في منظومة العمل المسرحي، ومنه وإليه يسعى فريق العمل.
ويحسب لـبريخت أنه أسس نظرية جديدة تدمج بين نظريات علم النفس والعمل المسرحي تسمى «كسر حاجز الإيهام»، وهذه النظرية تستند إلى فكرة مفادها إلغاء كافة الجدران بين العرض والمشاهدين، بحيث يندمج المشاهد فلا يشعر قيد أنملة أن ما يعرض أمامه محض تمثيل، وكان من أبرز تجليات ذلك أن قام مشاهد ذات مرة بإخراج مسدسه وقتل بطل المسرحية لأن البطل أقدم على قتل أحد الممثلين.. من شدة اندماج المشاهد ظن أن المشهد حقيقي، فسارع بقتل البطل قبل أن يقتل الممثل المقابل له، وقبر الممثل والمشاهد موجود في فرنسا حالياً ومنقوش عليه «هنا قبر الممثل المثالي والمشاهد المثالي»!
ولقد ساهمت نظريات بريخت في ترسيخ فكرة أن المسرح مكمن رئيس لتوفير حلول للمعضلات الاجتماعية والسياسية، فمشكلات مثل الطلاق، والعنصرية، والإدمان، تلاشت في دول أو قلت حدتها بفعل المسرح والدراما.
ويدرك دارسو الأدب الإنجليزي أن المسرح البريطاني ساهم في إحداث نقلة نوعية كبيرة في الثقافة الإنجليزية، حيث تمكن كل من برنارد شو، وأوسكاو، ونويل كوارد، وملهم المسرح الأول شكسبير من تجديد المضمون الفكري، والمعالجة الاجتماعية، مع تعزيز وجدان الشعب البريطاني بأفكار مراعية لأصالة الماضي مع استشراف ملامح المستقبل بمضامين جديدة، كما ساهم المسرح في إحداث التحول اللافت من الثقافة الإنجليزية المحافظة لحد ما إلى الثقافة الأمريكية بدراماتيكيتها المعهودة عبر أطروحات وتينيسي ويليامز، وأرثر ميلر وغيرهما.
مواجهة الطلاق
وفي الولايات المتحدة الأمريكية لما تفشت ظاهرة الطلاق وتشتت الأسر، وضياع الأبناء برزت كثير من الأعمال الدرامية والسينمائية للتأكيد على ضرورة لم شمل الأسرة مهما كانت التحديات، ففيلم مثل «كاست آواي» لتوم هانكس لم يعالج ظاهرة التشتت الأسرى فقط، بل عالج مجموعة من القيم الأخرى من خلال استعانة كاتب السيناريو بمتخصصين في الغذاء والطب البديل وعلوم الرياضيات، فضلاً عن علم النفس ليخرج العمل ملهماً للمشاهدين، يستحث عقولهم، ويوسع مداركهم، ويكسبهم خبرات ويغرس في نفوسهم القيم بعيداً عن التأثر العاطفي.
فالرجل سقطت به طائرة على جزيرة في قلب المحيط، وكيف تمكن من النجاة؟ وكيف استطاع العيش على مدى سنوات دون أن يفقد حياته؟ وكيف قدر المسافة التي تفصله عن أقرب يابسة استناداً إلى عملية حسابية أجراها على جدار صخرة بتلك الجزيرة النائية؟
وعلى ما في الفيلم من قيم غزيرة، فإن القيمة التي استوقفتني طويلاً؛ قيمة تعزيز التفكير العقلي على التفكير العاطفي فيما يتعلق بكيان الأسرة، وهي قيمة كان الأمريكان يحثون عليها ويؤكدونها في أعمالهم الدرامية والسينمائية، والتثقيفية، وجاء الفيلم مجسداً لها، فالذي أنقذ توم هانكس من الجزيرة دافع الحب القوي لزوجته، وظل يحلم باليوم الذي سيعود فيه إليها، غير أنه لما عاد من تلك الرحلة القاسية وجدها متزوجة من رجل آخر!
كان الطبيعي في تصورنا أن تطلب الطلاق من زوجها وتعود إلى زوجها السابق، لا سيما وأن الحب راسخ في قلبيهما، لكن ما حصل أنه ترك زوجته مع الرجل الذي تزوجته لأنه لاحظ أنها أنجبت منه أطفالاً، وهي الأخرى ضحت بحبها وظلت مع رجل لا تحبه لإنقاذ العائلة، على اعتبار أن العقل الجمعي الأمريكي كان يساق في تلك الفترة إلى فكرة تقديس العائلة كإجراء وقائي يعالج المشكلات الاجتماعية التي تفشت في المجتمع.
إبراز الرموز
انظر إلى الغرب وكيف ساهم في إبراز رموزه في كافة المجالات، مثل العالم الفيزيائي ستيفن هوكينج، في الفيلم الذي يحمل عنوان «The Theory of Everything»، كذلك أبدع الممثل راسل كرو من قبل في تجسيد الشخصية العبقرية جون فوربس ناش، الحائز على جائزة «نوبل» في الاقتصاد، في فيلم يحمل عنوان «عقل جميل».
ويبقى السؤال: لماذا لا نرى فيلماً يحكي بطولات لرموز الأمة قديماً وحديثاً بعيداً عن التشويه لغرس روح الكرامة في نفوس النشء، وتعزيز القضية في نفوس أبنائها؟!
وبينما يعتقد منتجو الأفلام في منطقتنا العربية أن إنتاج أفلام خالية من القبلات والأحضان، والبلطجة، تمثل خسارة على المنتج، والدخول فيها ضرب من الجنون باعتبارها مغامرة وخيمة العواقب، يثبت الواقع غير ذلك، فلقد حقق الفيلم الذي جسد شخصية العالم الشهير جون فوربس ناش أكثر من 300 مليون دولار علاوة على أنه فاز 4 مرات بـ«الأوسكار».
وحتى أكون واقعياً، صحيح هناك صعوبات كثيرة تواجه المبدعين الذين يطمحون لتقديم قيم مفقودة لا سيما في الأعمال الدرامية والمسرحية، فضلاً عن غيرها من الوسائط الأخرى، لكن الإشكالية -برأيي- تكمن في التفكير داخل الأطر الموضوعة مسبقاً من السلطة السياسية، إذ لا ينقص المبدع العربي المال ولا الموهبة ولا الإمكانات والقدرات المادية والمعنوية، بل ينقصه الاستعداد والتحلي بروح المغامرة، ففي الغرب ضيق المتحكمون في صناعة الأفلام الأمريكية الخناق على كل من يعادي الصهيونية، أو حتى قرر أن يمشي ضد التيار، من أمثال ميل جيبسون، ومن هنا تأتي أهمية أن يصنع المبدع كروت قوته بنفسه ولا ينتظر موافقة من هنا أو رضا من هناك.
____________________________