تغير العالم كثيراً خلال العقود الأخيرة، وباتت سوق العمل أكثر تعطشاً لمجالات جديدة لم تكن موجودة من قبل، كالإلكترونيات والاتصالات والذكاء الاصطناعي والطب وغيرها، وأصبح مُلحّاً أن توائم الجامعات سوق العمل بتوفير تلك التخصصات.
لكننا ما زلنا نعيش في عالمنا العربي أزمة كليات القمة التقليدية التي يتربع على عرشها مجالات الطب والهندسة، ولا نمتلك مرونة التفكير خارج الصندوق والبحث عن متطلبات سوق العمل ومواكبتها، وهذا ما سبَّب عدة أزمات على رأسها البطالة.
مناهج عقيمة
لا تزال المشكلة الأكبر في عالمنا العربي تتمثل في الميل للقديم وعدم السعي وراء الحداثة والتطوير، وهذا ما ينطبق على مناهج التعليم بشكل عام وخاصة الجامعي منها، فالمناهج الجامعية في كليات القمة تحديداً عقيمة ولا تلاحق التطور الدائم في العالم بأكمله، ولا تقوم على دراسة متطلبات سوق العمل وتوفير الخريجين الذين يسدون العجز في مجالات عدة.
بل ربما ما يدرسه الطلاب في عدة مجالات قد تجاوزه الزمن وأصبح لا قيمة له، نظراً لأن من يقومون بوضع المناهج ذاتهم لا يسعون لمواكبة التحديثات المتسارعة، وهذا بالطبع يخلق فجوة واسعة بين الوضع القائم في كليات القمة العربية والتطور المتسارع في العالم بأكمله.
ضعف الميزانيات
تتفاوت نسبة الإنفاق على التعليم بين الدول العربية بشكل عام، ولكن المؤكد أنه يشكل نسبة ضئيلة من الدخل القومي لهم، حيث لا تنفق الدول العربية أكثر من 5% فقط من إجمالي الناتج المحلي على التعليم، حيث أشار تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى الاختلافات الواسعة بين الدول من حيث الإنفاق على التعليم، فلا توجد دولة عربية واحدة ضمن أكبر 10 دول تنفق نسبة من ناتجها القومي على التعليم وتطويره.
وهذا الضعف في التمويل يؤثر على قدرة تلك الكليات على تطوير مناهجها وتحديث برامجها وتوفير التقنيات والمعدات اللازمة للتطوير، كما يؤدي إلى تقليل فرص البحث العلمي والتدريب للمتميزين.
الفكر التقليدي
ما زالت النظرة السطحية لكليات القمة في وطننا العربي ثابتة لم تتغير، فكلية القمة هي الكلية التي تحتاج للمجموع الأكبر في الثانوية العامة، وليست الكلية التي تواكب متطلبات العصر الحديث وتلبي احتياجاته، ومن هنا فالطالب الجامعي يدخل الكلية التي توافق مجموعه لا رغباته؛ لذا يغيب عنه الإبداع والتميز، لأنه دخل مجالاً لم يكن ضمن طموحه من الأساس فتحدث فجوة بين واقعه وحلمه.
وعندما يتخرج في الجامعة تتسع تلك الفجوة ليصبح الواقع لا يوافق طموحه ولا يواكب كذلك ما درسه في الجامعة، ولا يعده للالتحاق بفرصة عمل مناسبة، ومن هنا نرى نماذج للموظفين الذين يقدسون الروتين والبيروقراطية ولا يعرفون للتميز سبيلاً.
حلول ممكنة
لا بد أن نُقر أن هناك مشكلة تتعلق بكليات القمة ومحدودية الانفتاح على الجديد، ونبحث عن حلول يمكن تنفيذها للخروج من تلك الأزمة بإمكاناتنا المحدودة، ومنها:
– تطوير وتحديث المناهج الدراسية بالجامعات: حيث يتم وضع خطط تتعلق بتحديث المناهج الدراسية بكليات القمة لتشمل المجالات الجديدة وتواكب الحداثة والتطور، ويكون ذلك بالتعاون مع نخبة متخصصة من أساتذة الجامعات الدارسين في تلك المجالات المتطورة، أو الذين سافروا للخارج لدراسة أحدث المناهج الجامعية هناك.
– تولية القيادة للأكفأ وليس الأقدم: يجب أن تتغير فكرة تولي المناصب القيادية لمن هم أكبر سناً، حيث يجب أن نضع الكفاءة والإبداع والفكر الجديد في الاعتبار، رغم أهمية الخبرة فإن هناك عناصر شابة تمتلك أفكاراً إبداعية تساهم بشكل كبير في التطوير، وحال تصدر هؤلاء المشهد فقطعاً سيتم ضخ دماء جديدة في المنظومة التعليمية ككل ما يترتب عليه مواكبة التحديثات المستمرة والإبداع المصاحب للتطوير.
– تشجيع البحث العلمي في المجالات الجديدة: يجب أن تولي الجامعات أهمية كبيرة للبحث العلمي، خاصة في المجالات الجديدة وتوفير التمويل والموارد اللازمة لذلك لتضمن مواكبة العصر مع تحقيق التميز والإبداع، ولا بد من دعم شباب العلماء والباحثين للاستفادة من عقولهم في البحث والتطوير.
– توفير الميزانيات اللازمة للتحديث: يجب أن ترفع الدول العربية من الدعم المطلوب لتطوير وتحديث التعليم الجامعي بشكل عام، وإن تعذر توفير الدعم اللازم فيمكن الاستعانة برجال الأعمال والمجتمع المدني والسعي لتوفير عدة مصادر بديلة لتمويل برامج التحديث، حيث يؤدي هذا التعاون إلى تطوير برامج دراسية متخصصة تلبي احتياجات سوق العمل.
– توفير برامج للتدريب والتطوير المهني: من المهم أن تطور الجامعات برامج التدريب الخاصة بأعضاء هيئة التدريس والطلاب، حيث تشمل تلك البرامج أهم المهارات والخبرات اللازمة في المجالات الجديدة والتدريب عليها.
الخلاصة أن فكرة تحديث كليات القمة والانفتاح على المجالات الجديدة فكرة محورية ومهمة، ويجب أن توليها الدول العربية اهتماماً كبيراً حتى يتم تفعيلها في كافة المجالات.
ومن المفيد أن يتم التعاون ونقل الخبرات بين بلداننا العربية لتحقيق التحديث المطلوب، الذي بالقطع سيحقق طفرة في مستوى الجامعات العربية وكفاءتها، يكون من ثماره إنتاج خريجين يواكبون سوق العمل ويحققون احتياجاته، خاصة في المجالات الحيوية والمهمة، وهذا بالقطع سيساهم في تحقيق التنمية المستدامة وخفض نسب البطالة في الدول العربية، كما ستتغير النظرة لكليات القمة لتصبح الكليات التي تواكب سوق العمل وتمده باحتياجاته وليست الكليات التي تحتاج للمجموع الأكبر في الثانوية العامة.