بلغ تعداد العبرانيين في عام ١٠٠٠ ق. م، حسب بعض التقديرات التخمينية، نحو ١.٨٠٠.٠٠٠ نسمة، منهم ٤٥٠ ألفاً في المملكة الجنوبية ومليون وثلاثمائة وخمسون ألفاً في المملكة الشمالية. ولكن ثمة رأياً يذهب إلى أن هذا العدد مُبالَغ فيه، حيث أن الإمكانات الطبيعية لفلسطين واقتصادها ما كان يمكن لهما في تلك المرحلة بمستوى التطور التكنولوجي السائد آنذاك أن يُمدا مثل هذا العدد الضخم بأسباب الحياة، مع ملاحظة أن عدد سكان مصر كان نحو ستة ملايين بكل إمكاناتها ومعدل نموها.
ويبدو أن ازدياد العدد يرجع إلى عدة أسباب من بينها قيام الدولة الحشمونية بتهويد بعض السكان غير اليهود داخل حدودها، مثل الإيطوريين وبعض الشعوب المجاورة مثل الأدوميين الذين حكمت أرضهم. وقد قام الفريسيون بحركة تبشير ضخمة لاقت نجاحاً غير عادي بسبب أن الوثنية الرومانية بدأت تدخل مرحلة الأزمة التي أدَّت في نهاية الأمر إلى سقوطها وإلى تَبنِّي الرومان للمسيحية ديناً رسمياً. وقد انتشرت اليهودية بين أعداد كبيرة من الرومان، من بينهم بعض أعضاء النخبة الحاكمة، في الفجوة الزمنية التي تفصل بين بداية الضعف والاضمحلال وبين السقوط النهائي وتَبنِّي المسيحية من حيث هي دين وعقيدة تفسر الكون لأتباعها وتمنحهم الإجابات للأسئلة الكونية الكبرى التي تجابههم.
ويبدو أن ما يُسمَّى «السلام الروماني» (باللاتينية: باكس رومانا pax (romana، الذي ساد المناطق التي كان يعيش فيها أعضاء الجماعة اليهودية، قد وفر من الأمن والطمأنينة ما شجع اليهود على التزايد. وربما كانت بداية اشتغال اليهود بالأعمال التجارية تعني ارتفاع مستوى المعيشة والابتعاد عن المهام القتالية، وهو ما كان يعني تناقص نسبة الوفيات.
وأخيراً، يُقال إنه بعد سقوط قرطاجة، انضمت الدياسبورا الفينيقية والقرطاجية إلى أعضاء الجماعات العبرانية اليهودية باعتبارهم جميعاً ساميين ينتمون إلى التشكيل الحضاري نفسه وباعتبار أنهم يضطلعون بالوظيفة نفسها.
وقد بدأت الصورة تأخذ شكلاً مغايراً مع بدايات العصور الوسطى في الغرب والعصر الإسلامي في الشرق، حيث اختفت أعداد كبيرة من اليهود من خلال عمليات الاندماج والانصهار. فمع ظهور المسيحية، تَنصَّرت أعداد ضخمة من اليهود، كما حدث في الإسكندرية على سبيل المثال. ومع انتشار الإسلام، تبنت أعداد كبيرة منهم الدين الجديد، وتحولت الجماعات اليهودية إلى جماعات صغيرة متناثرة. وكان من الصعب تخمين عدد اليهود في العالم آنذاك إذ أن الإحصاءات كانت متناقضة للغاية، ففي العالم الإسلامي كانت الإحصاءات غير موثوق بها، وفي أوربا لم تكن هناك سجلات إحصائية. ومع هذا، ترى معظم المراجع أن عدد اليهود في العالم كان يتراوح بين مليون ومليونين، وأن أغلبهم (٨٥ ـ ٩٠%) قد تركز في العالم الإسلامي مع نهاية القرن الثاني عشر. ولكننا نفضل الأخذ بالرقم مليون، خصوصاً في ضوء الأعداد اللاحقة، حيث أن عدد يهود أوربا لم يكن يزيد على نحو ١٠٠ – ٣٥٠ ألفاً (من مجموع سكان أوربا البالغ ٥٣ مليوناً) في حين وصل العدد إلى ٤٥٠ ألفاً في عام ١٣٠٠ (٣٠٠ ألف فقط عند روبين) من مجموع ٥٣ مليوناً كان معظمهم مُركَّزاً في إسبانيا. وقد بلغ تعداد يهود العالم في القرن الخامس عشر حسب أحد التخمينات الإحصائية نحو مليون وخمسمائة ألف.
وحتى ذلك التاريخ، كانت أغلبية يهود العالم من السفارد المستقرين في حوض البحر الأبيض المتوسط: روما ـ الإسكندرية ـ إسبانيا ـ المغرب (التابعة للدولة العثمانية) ـ سالونيكا ـ إيطاليا ـ فرنسا، ومن يهود العالم الإسلامي، ولم يكن الإشكناز من يهود أوربا سوى أقلية صغيرة. ثم تغيَّرت الصورة بالتدريج ابتداءً من تلك الفترة حتى أصبح الإشكناز هم الأغلبية العظمى.
ولتفسير ذلك الوضع، يجب الوقوف عند ظاهرة تزايد عدد أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا وتَحوُّلها إلى أكبر الجيوب اليهودية في العالم. وتقول الإحصاءات إن عدد يهود بولندا (في عام ١٥٠٠) كان يبلغ نحو ١٠ – ١٥ ألفاً، ولكنه زاد فجأة إلى ١٥٠ ألفاً بين عامي ١٥٠٠ و١٦٤٨. وتقول الموسوعة اليهودية إنهم أصبحوا بذلك أكبر تَجمُّع يهودي في العالم إذ كان قد تم طرد يهود إسبانيا.
ولكن، بعد انعقاد مؤتمر فيينا في عام ١٨١٥، بدأت مرحلة جديدة تماماً إذ حدث انفجار سكاني بين اليهود. فإذا كان عدد اليهود في عام ١٨٠٠ هو مليونان وخمسمائة ألف، فقد بلغ هذا العدد عشية الحرب العالمية الثانية نحو ١٦.٧٢٤.٠٠٠.
ومعنى ذلك أنهم زادوا ستة أضعاف في أقل من ١٥٠ عاماً. وفي الفترة من عام ١٨٢٠ إلى عام ١٨٢٥، كان عدد اليهود ٣.٢٨٠.٠٠٠، وزاد إلى ١٠.٦٠٢.٥٠٠ مع عام ١٩٠٠.
وبهذا، فقد زادوا ثلاثة أضعاف خلال ٧٥ عاماً. ويُلاحَظ أن الزيادة كانت بين يهود العالم الغربي فقط، ذلك أن تعداد يهود الشرق لم يزد بل انكمش إلى ٩٠٠ ألف عام ١٨٤٠، وإلى ٨٠٠ ألف عام ١٨٦٠، ثم زاد إلى ٩٥٠ ألفاً بسبب هجرة بعض يهود اليديشية من الغرب عام ١٩٠٠. ولكن هذا النمو لم يكن مقصوراً على أعضاء الجماعات اليهودية، ففي الفترة نفسها تقريباً (من عام ١٨١٥ إلى عام ١٩١٤) زاد سكان أوربا من ١٩٠ مليوناً إلى ٤٠٠ مليون. وزاد سكان الولايات المتحدة من ٧.٢٤٠.٠٠٠ عام ١٨١٠ إلى ٩١.٩٧٢.٠٠٠ عام ١٩١٠، وإن كانت الزيادة في الولايات المتحدة يمكن تفسيرها على أساس الهجرة، فهذا هو عصر الهجرة الأوربية الكبرى (اليهودية وغير اليهودية) . وقد استوعبت الولايات المتحدة نحو ٨٥% من المهاجرين، لكن الزيادة في أوربا لا يمكن تفسيرها إلا على أساس زيادة نسبة المواليد وقلة نسبة الوفيات. ومع هذا، يُلاحَظ أن نسبة زيادة أعضاء الجماعات اليهودية كانت أعلى من النسبة العامة في أوربا، ولعل هذا يعود إلى أن أعضاء هذه الجماعات كانوا يعيشون تحت الظروف نفسها التي أدَّت إلى زيادة سكان أوربا، وتحت ظروف أخرى خاصة بهم ساهمت في رفع النسبة عن النسبة العامة في أوربا. فيُلاحَظ أن تَحسُّن الأحوال الصحية، نتيجة الثورة الصناعية في أوربا، قد ترك أثره
الإيجابي في أعضاء الجماعات اليهودية، ولكن يبدو أن المستوى الصحي داخل الأحياء اليهودية كان أعلى من المستوى الصحي العام بسبب الرقابة على اللحوم والأطعمة نظراً لتطبيق قوانين الطعام.
وفي شرق أوربا، حيث تَركَّز معظم اليهود، كان دخل أعضاء الجماعة اليهودية أكثر ارتفاعاً وكان أسلوب حياتهم أكثر راحة ووفرة من دخل وأسلوب حياة معظم الجماهير الفلاحية، كما كان أعضاء الجماعة يتمتعون بمستوى ثقافي أعلى. وقد انعكس هذا، بطبيعة الحال، على نوعية الطعام الذي يستهلكونه وأدَّى إلى اختفاء أو تناقص الأمراض المرتبطة بالفقر وسوء التغذية. وكانت الأسرة اليهودية تتمتع بدرجة عالية للغاية من التماسك، الناجم عن التمسك بالقيم الدينية والتقليدية، بقدر يفوق كثيراً تَماسُك الأسر غير اليهودية. ويظهر هذا في إحصاءات الأطفال غير الشرعيين، حيث كانت نسبتهم بين اليهود في كثير من الأحيان أقل بدرجة ملحوظة من نسبتهم بين غير اليهود. والعنصران السابقان يسهمان معاً في خفض نسبة الوفيات بين الأطفال كما يشجعان على الإنجاب.
ومن أهم العناصر الأخرى التي ساعدت على هذا الانفجار زواج اليهود في سن مبكرة للغاية. فقد كان من الشائع أن يتزوج الشبان من سن ١٥ إلى ١٨ بفتيات من سن ١٤إلى ١٦. وكانت الحكومات المركزية القومية المطلقة في روسيا والنمسا تلجأ أحياناً إلى تحديد سن الزواج وعدد المسموح لهم بالزواج (نتيجة شيوع آراء مالتوس ولغير ذلك من الأسباب) . وحينما كانت الشائعات تنطلق حول أحد القوانين وشيكة الصدور، كان اليهود يسرعون بتزويج كل صغار السن قبل صدوره. وفي إحدى الإحصاءات البولندية (في القرن الثامن عشر) ، ورد ذكر لزوجة عمرها ثماني سنوات. وفي عام ١٧١٢، منعت السلطات في أمستردام زواج طفلين يهوديين تحت سن الثانية عشرة. ومن العناصر الأساسية التي ساهمت في تزايد عدد اليهود أن الفترة من عام ١٨٠٠ إلى عام ١٩١٤ لم تشهد الأماكن التي يوجد فيها أغلبية يهود العالم أية حروب، بل إن معارك نابليون وقعت بعيداً عن مراكز التجمع اليهودي. وعلاوة على كل هذا، لم تكن هناك دول كثيرة تقوم بتجنيد اليهود، ففي روسيا القيصرية، لم يبدأ تجنيدهم إلا عام ١٨٢٧، ولم يُجنَّدوا في بولندا حتى عام ١٨٤٥، ولا في الدولة العثمانية حتى عام ١٠٨. وفيما يتصل بالمذابح التي تطنطن بها المراجع الصهيونية، فلم يقع ضحيتها سوى بضع مئات طيلة هذه الفترة.