المسؤولية الفرديّة في التصور الشرعي تعني ما يُسأل عنه الفرد ويحاسَب عليه أمام الله تعالى، وتشمل: المسؤولية عن النفس وعن الغير، كلٌّ بقدرها وأولوياتها، فثمّة صلة معتبرة في الشرع بين الفرد ومحيطه من الناس، بل وكافة مخلوقات الله تعالى، وبذلك يأتي تصور الإسلام وسطًا بين المذاهب الذاتية الأنانية والغيرية الفنائية.
وقد شرع الشارع أركان الاجتماع في المجتمع المسلم، وأحقّ الحق سبحانه للمسلم على المسلم حقوقًا، لا يمكن بدونها تعبيد الأرض لله تعالى والقيام بمسؤوليات الاستخلاف، كالتراحم والتكافل والتعاون على البر والتقوى، وغيرها من دعائم الإيمان في الأنفس والآفاق، ولذلك تجد في الشرع فروضًا عَينِيَّة تجب على كل فرد مُكَلَّف بنفسه، وفروضًا كفائية تجب على مجموع الأفراد المُكلّفين عامة لا على فرد بعَيْنِه خاصة، فإذا قام بها أفراد بما يكفي سقط الوجوب عن الباقين، أمّا إذا لم يقم بها أحد أَثِمُوا جميعًا، من ذلك مثلًا: الجهاد والدعوة والأذان وغُسل الميت والصلاة عليه ودفنه، وبذلك تفهم الأحكام التي تُلزِم أفراد المجتمع عاقبة الأفعال الجماعية، وتدرك حكمة أحكام النكاح وغيرها من «الأحوال الشخصية» التي تجعل اعتبارًا لأهالي الأطراف المعنيين ومحيطهم، وكل هذا يخالف في المُنطلق والمُنتهى التصورات والتطبيقات الأجنبية لمفاهيم الاستقلال الذاتي والحرية الشخصية والفردانية والجزر المنعزلة.. إلخ.
هذا وضرر سلوك الفرد المخالف لأمر الله تعالى لا بد أن يتعدّى لغيره، وفي الحديث: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ الله وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَة فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» (رواه البخاري).
هذا المَثَل الذي ضَربه المصطفى صلى الله عليه وسلم يبدأ بتصنيف الناس في المجتمع إلى صنفين من حيث المسؤولية الفردية عن النفس: المستقيم على أمر الله تعالى، والمخالف لأمر الله تعالى، ثم يبيّن عاقبة كلا الفريقين من حيث المسؤولية الفردية عن الغير، فإذا اكتفى المستقيم باستقامته في نفسه دون عناية بردع المخالف عن مخالفاته حيث لَزِمَ واستطاع، سيعمُّ البلاء الجميع.
والبلاء هنا اسم جامع لسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول الحقّ سبحانه: (وَاتّقُوا فِتنَةً لا تُصِيبَنَّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُم خَاصَّةً) (الأنفال: 25)، وأورد أبو العباس القرطبي في شرحه للآية في كتابه «التذكرة»: «إذا كَثُر المفسِدون وقلَّ الصَّالِحون هلَك المفسِدون والصَّالحون معَهم إذا لم يَأمُروا بالمعروفِ ويَكرَهوا ما صنَع المفسِدون، فالمعصية يَعُمُّ شُؤمُها على الجميعِ، مَن تَعاطاها ومَن رَضِيَها»، فالسكوت على المنكر مع القدرة على النهي رضا به، والراضي بمنزلة العامل فدخل معه في العقوبة، وشدّد النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى في أحاديثه، منها أنه صلى الله عليه وسلم سُئِل: أنهلِكُ وفينا الصَّالحون؟ قال: «نعم، إذا كَثُرَ الخَبَث» (رواه مسلم).
ويترتب على فهم المسؤولية الفردية في تصور الشرع تمييز الحدّ الذي تنتهي عنده خصوصية السلوك الفردي وتبدأ المؤاخذة على الأثر المتعدي، فكلُّ مَن جاهَر بسلوك أو أذاعَ قولًا أو نَشَر فكرًا، فاقتُدِيَ به، كان له من الثواب أو عليه من الوِزر بعدد المُقتدين والمتأثرين، من غير أن ينقص من أوزارهم أو حسناتهم شيئًا!
ومثل ذلك إذا فرّط في الاهتمام بأمور المسلمين بكل سبيل يستطيعه، بدعوى أن المسألة لا تخصّه، وفي الحديث: «لقد رأيتُ رجلاً يتقلّب في الجنّة في شجرة قَطَعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين» (رواه مسلم)، فصحيح أنك لا تُكلَّف إلا نفسَك، وكلٌّ يحاسَب وحده، وكلٌّ مجزيٌّ بعمله، ولا يُظلَم أحد مثقال ذرّة، ولا تَزِر وازرة وِزْر أخرى، وصحيح كذلك أن «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» (رواه البخاري).
ومع ذلك فمما يؤسَف له أن مظاهر حياة أهل الإسلام في غالبها لا تعبر عن شعور بالمسؤولية الفردية، سواء عن النفس أو الغير، وأول التفريط يقع في الحقوق التي نصّ عليها المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الجامع: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (سنن أبي داود).
وعن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضوانُ الله تعالى عليه أنَّه قال: أيُّها النَّاسُ إنَّكم تقرؤُون هذه الآيةَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة: 105)، وإنَّا سمِعنا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: «إنَّ النَّاسَ إذا رأَوُا الظَّالمَ فلم يأخُذوا على يدَيْه، أوشك أن يعُمَّهم الله بعقابٍ»؛ وإنِّي سمِعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم يقولُ: «ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي، ثمَّ يقدِرون على أن يُغيِّروا ثمَّ لا يُغيِّروا، إلَّا يوشِكُ أن يعُمَّهم الله منه بعقابٍ» (سنن أبي داود).