يتعرض الإنسان في حياته لشدائد وضوائق متنوعة، سواء كانت على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، وسواء كانت في المجال الديني أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، وحين يُصاب الإنسان بهذه الشدائد، فإنه يحتاج إلى خطاب يُقَوّي عزيمته ويرفع همته ويعالج آلامه ويضمد جراحه ويتغلب به على أحزانه.
وإن الناظر في المنهج الإسلامي يجد أن الخطاب الدعوي في أوقات الأزمات يرتكز على ما يلي:
أولاً: التمسك بالأمل، فإن الأمل هو الشعاع الذي يضيء ظلمات الحياة، وهو القوة التي تدفع إلى العمل، وتبعث النشاط في الروح والبدن، فعلى الداعية أن يجعل خطابه الدعوي في وقت الأزمة متشبعاً بالأمل، فيحدّث المريض عن الشفاء، والزارع عن الحصاد، والتاجر عن الربح، والطالب عن النجاح، والجندي عن النصر.
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فقد كَانَ إذا دخل على مريض يعوده، فإنه يفتح أمامه أبواب الأمل في الشفاء وتحصيل الأجر والثواب، حيث كان يقول للمريض: «لَا بَأْسَ، طَهور إِنْ شَاءَ اللَّهُ»(1)، كما يقول: «عَظَّمَ الله أجرك، ورزقك العافية في دينك وجسمك إلى منتهى أجلك»(2).
وكان صلى الله عليه وسلم يتحدث في ميادين الجهاد عن الانتصار، من أجل بناء الأمل في نفوس المجاهدين، ففي غزوة «بدر» الكبرى، أشار الصحابة عليه بالخروج لملاقاة المشركين، فقال لهم: «سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ الْآنَ مَصَارِعَ الْقَوْمِ»(3)، فهذا خطاب دعوي يرتكز على التمسك بالأمل.
ثانياً: الدعم المعنوي والمادي، أما الدعم المعنوي فيكون بالمشاركة الوجدانية التي يتأثر الإنسان فيها بمن حوله، فيشاركهم في انفعالاتهم، بحيث يحزن لحزنهم، ويتألم لما يصيبهم، ولهذا شرع الإسلام تعزية المصاب وحثّ عليها وجعل لها الثواب الجزيل، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة، إلا كساه الله سبحانه من حلل الكرامة يوم القيامة»(4)، ففي التعزية دعم للمصاب وتخفيف عنه.
ومن الأمثلة التي تدل على دعم المصاب ومشاركته معنوياً؛ ما حكي عن محمد بن مناذر قال: كنت أمشي مع الخليل بن أحمد فانقطع نعلي فخلعته، فخلع الخليل نعله، فقلت له: لِمَ تفعل هذا؟ فقال: من الجفاء ألا أواسيك في الحفاء(5)، ففيه دليل على الدعم والشعور بأحوال الناس ومشاركتهم.
أما الدعم المادي فيكون بالحث على إمداد المصاب بما يحتاج إليه، وعرض المساعدة عليه، ومنه ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حين مات جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم»(6).
وإن الدعم المادي ليس من باب التبرع، بل هو واجب على الإنسان، كما يحصل به المسلم أجراً كبيراً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا»(7)، فهو نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله، فعلى الداعية في أوقات الأزمات أن يكون خطابه داعماً للحق ومسانداً له وموجهاً جمهوره إلى الوقوف والمعاونة لصاحب الحق.
ثالثاً: إشاعة السكينة والطمأنينة بين الناس، فإن الناس في وقت الأزمة قد يسيطر عليهم الخوف والفزع والضعف والوهن، فهم في حاجة إلى تثبيت وتطمين، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حين فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ في ليلة من الليالي حيث سَمِعُوا صَوْتًا، فَتَلَقَّاهُمُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى فَرَسٍ لأبِي طَلْحَةَ، وهو مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ، فَقالَ: «لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا»(8)؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بادر إلى مكان الصوت ثم عاد يشيع الطمأنينة والسكينة بين الناس.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم حين أصيب الصحابي الجليل حارثة في غزوة «بدر»، فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ، وإن تكن الأخرى تر مَا أَصْنَعُ؟ فَقَالَ: «وَيْحَكِ، أوَ هَبِلْتِ، أوَ جَنَّة وَاحِدَةٌ هِيَ؟ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ لَفِي جَنَّةِ الفردوس»(9)، إنه خطاب دعوي يرتكز على إشاعة السكينة والطمأنينة بين الناس من خلال تذكيرهم بما يحصلون عليه من الأجر والثواب.
رابعاً: رفع المعنويات وسَوْق البشريات، فإن أوقات الأزمات تحتاج إلى تشجيع النفس ورفع معنوياتها، من خلال الحديث عن المكانة التي يتحلى بها الإنسان والمنبع الذي يستمد منه القوة والعزيمة، ولهذا خاطب الحق سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بعد انكسارهم في غزوة أحد، قائلاً: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء) (آل عمران)؛ أي لا تضعفوا بسبب ما جرى لكم، فأنتم الأعلون في المكانة والديانة، والعاقبة في النصر ستكون لكم، فهذا خطاب يرتكز على التبشير والتحفيز والاستثارة للنفس في استعادة القوة واستنهاض الهمة.
خامساً: ضرب الأمثال، فحين ينظر الواقع في أزمة إلى من حوله أو يقرأ في سيرة من سبقه فيجد مصائب تشبه مصيبته؛ فإن الأمر يهون عليه، بل إنه يحرص على الاقتداء بمن سبقه في التعامل مع هذه الأزمة، ولهذا ارتكز الخطاب الدعوي في أوقات الأزمات على ضرب الأمثال، وفي القرآن الكريم ما يؤكد هذا المعني، حيث جاء الخطاب القرآني للصحابة في غزوة أحد يقول لهم: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146).
إنه يضرب المثال ويحث على الاقتداء بالسابقين، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حين جاءه خباب بن الأرت يشتكي له ظلم أهل مكة وتعذيبهم له وللمؤمنين من أمثاله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»(10)، ففي هذا دلالة على ارتكاز الخطاب النبوي في وقت الأزمة على ضرب الأمثال من أجل الاقتداء بهم.
سادساً: الدعاء، وهو سلاح المؤمن في وقت الأزمات؛ لأنه يتوجه إلى الله الذي يملك الكون بما فيه أن يعينه ويقويه، «فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، واللهُ خالق الأسباب والمسببات»(11)، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالدعاء في أوقات الأزمات، فقال: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ) (الإسراء: 67)، وقال عز وجل: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) (الأنفال: 9).
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعين بالدعاء في وقت الأزمة، ففي غزوة «بدر»، نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ثم استقبل القِبلةَ، ثم مَدَّ يديْه وقال: «اللَّهمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَني، اللَّهمَّ إنَّكَ إنْ تُهلِكْ هذهِ العِصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ، فلا تُعْبَدُ في الأرضِ أبدًا»(12)، ولما هاجم المشركون المدينة في غزوة «الأحزاب»، رفع النبي صلى الله عليه وسلم يده ودعا ربه قائلاً: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم»(13)؛ ففي الحديث دليل على أن الخطاب في وقت الأزمة يرتكز على الدعاء والإلحاح على الله سبحانه وتعالى أن يفرج الكرب ويحقق الخير لعباده.
والخلاصة أن الخطاب الدعوي في أوقات الأزمات يرتكز على التمسك بالأمل، والدعم المعنوي والمادي، وإشاعة السكينة والطمأنينة بين الناس، ورفع المعنويات وسوق البشريات، وضرب الأمثال، والتوجه إلى الله تبارك وتعالى بالدعاء والاستغاثة، فهو الذي يملك الكون بما فيه وهو على كل شيء قدير.
__________________________
(1) صحيح البخاري (5332).
(2) الجامع الكبير: للسيوطي (15544).
(3) دلائل النبوة: للبيهقي (3/ 4)
(4) سنن أبي داود (1600).
(5) مجمع الأمثال: أبو الفضل الميداني، ص 379.
(6) سنن أبي داود (3132).
(7) متفق عليه.
(8) متفق عليه.
(9) صحيح البخاري (2654).
(10) صحيح البخاري (3416).
(11) السنن الإلهية: د. عبد الكريم زيدان، ص 22.
(12) صحيح مسلم (1763).
(13) صحيح البخاري (2775).