يحصر كثير من الناس الأمانة في أضيق معانيها وحدودها، فيرونها قيام الإنسان بحفظ ما يُودع لديه من مال، فإن وفّاه صاحبه كان أمينًا، وإن أنكره وتلاعب به كان خائنًا، وهذا وإن كان من معاني الأمانة إلا أنه في الواقع أضيق حدودها.. وللأمانة مفهوم أوسع من ذلك:
أولًا: تولي المناصب والوظائف العامة:
فقد حذّر الإسلام أن يتولى العمل إنسان، وهناك من هو أفضل منه وأقدر على أدائه، فقد جاء رجل يسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، متى تقوم الساعة؟ فقال له: (إذا ضُيِّعَتِ الأمانَةُ فانْتَظِرِ السّاعَةَ قالَ: كيفَ إضاعَتُها يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: إذا أُسْنِدَ الأمْرُ إلى غيرِ أهْلِهِ فانْتَظِرِ السّاعَةَ).
وعلى هذا فكل عمل له مؤهلاته الخاصة به، ولا يكتفي بعنصر التقوى والورع لتولى مهام الأمة، بل لا بد من توافر شرطي القوة والأمانة، فشرط القوة يمثله المؤهلات العلمية والبدنية، والعقلية التي تجيد الابتكار والإبداع، وحسن التخطيط والتنظيم، وشرط الأمانة يمثله الجانب الخلقي الخاص بتقوى الله، عز وجل، ألا ترى إلى يوسف الصديق؟ إنه لم يرشح نفسه لإدارة شؤون المال بنبوته وتقواه فحسب، بل بحفظه وعلمه أيضًا.
ثانيًا: إتقان العمل وإجادته:
فمن معاني الأمانة أن يحرص المرء على أداء واجبه كاملًا في العمل الذي يناط به، وأن يستنفذ جهده في إبلاغه تمام الإحسان، ويسهر على حقوق الناس التي وُضعت بين يديه، فإن استهان الفرد بما كُلف به، وإن كان تافهًا، يؤدي ذلك إلى شيوع التفريط في حياة الأمة كلها، واستشراء الفساد فيها. يقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (الخازِنُ الأمِينُ، الذي يُؤَدِّي ما أُمِرَ به طَيِّبَةً نَفْسُهُ، أحَدُ المُتَصَدِّقِينَ). أما إذا استغل العامل عمله أو وظيفته استغلالًا سيئًا، فإنه لا يجني من وراء ذلك إلا الإثم والهلاك.
ثالثًا: الاهتمام بالرعية:
فالراعي الأمين على رعيته، هو الذي يتقي الله فيهم، ويأخذ بأيديهم إلى الله، ويذكرهم به، ويشعرهم برقابته، ويأمرهم بالمعروف، ويأتمر به فيهم، ويكون على وَجَل من الله، عز وجل، فقد روى ابن عباس، رضي الله عنه، أنّ عمر بن الخطاب كان يجلس كلّ يوم بعد صلاة الفجر؛ للنظر في أمور الرعيّة حتى ترتفع الشمس، ثمّ يدخل منزله.
رابعًا: أمانة الحديث:
فالحديث الذي يدور بين الأصحاب والجيران أمانة، فيجب عدم إفشاء ما قيل في المجلس من أسرار، وتحريفه، بتغيير الكلام ليفيد معنى غير الذي قيل، فإن في هذا خيانة للأمانة، وفي الحديث: (إذا حدَّث رجلٌ رجلًا بحديثٍ ثمَّ التفت فهو أمانةٌ).
وكم من حبال تقطّعت، ومصالح تعطّلت، لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس، وذكرهم ما يدور فيه من كلام، منسوبًا إلى قائله أو غير منسوب.
ويدخل في ذلك، أيضًا، إفشاء الأسرار الزوجية، فكثير من الناس يرى أن من علامات الفحولة والرجولة أن يتحدث أمام الناس عمّا يدور بينه وبين أهله من المعاشرة، وهذه وقاحة حرّمها الله.
خامسًا وأخيرًا: رد الودائع لأصحابها:
هذه الصورة من صور الأمانة هي الصورة التي يرى الناس فيها الأمانة أو الخيانة، فمفهوم الأمانة عند عامة الناس يقتصر على رد الودائع لأهلها، وإن كان هذا المفهوم قاصرًا، إلا أن هذه الأمانة بالفعل من أخطر الأمانات؛ وذلك لأن النفس تضعف عند شهوة المال، وخصوصًا إذا لم يكن لدى صاحب الوديعة ما يثبت له حقه، فحينئذ يسيل لعاب الإنسان للمال، ويعتبرها غنيمة. ولذلك قال، عليه الصلاة والسلام: (لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يتخذوا الأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا).
هذه بعضُ صور الأمانة التي حثّ عليها الإسلام، ومنها أيضًا الأمانة في النصح والمشورة، وتبليغ العلم، وحفظ العقل والجسم، وحفظ مال اليتيم من الأمانة، والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود، سرُ سعادة الأمم أو شقائها، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب في كل هذه الأمانة والوفاء بها، كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس.
نقلاً عن صحيفة “الشرق” القطرية.