الصدق من الأخلاق الأساسية التي يتفرع عنها غيرها، وهو من أهم الأسس التي تُبنى عليها المجتمعات، ولولاه ما بقي المجتمع، وقد حثَّ الإسلام على الصدق وبيّن فضائله، وأكَّد أنه من صفات النبوة، يقول تعالى: (وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ إِبۡرَ ٰهِیمَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّیقًا نَّبِیًّا) (مريم: 41)، ويقول: (وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ إِسۡمَـٰعِیلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِیًّا) (مريم: 54)، وأمر عباده المؤمنين بالصدق، قال تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَكُونُوا۟ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِینَ) (التوبة: 119).
ومن أهم مراتب الصدق:
أولًا: صدق اللسان: وذلك لا يكون إلا في الأخبار، أو فيما يتضمن الأخبار ماضيًا أو مستقبلًا، ويندرج تحته الوفاء بالوعد والخلف فيه. وحُق على كل عبد أن يحفظ ألفاظه، فلا يتكلم إلا بالصدق، وهذا هو أشهر أنواع الصدق.
ثانيًا: الصدق في النية والإرادة: ويرجع ذلك إلى الإخلاص، وهو ألّا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى. فإن مازجه حظوظ النفس، بطل صدق النية، ويجوز أن يسمى صاحبه كذّابًا.
ثالثًا: صدق العزم: فإن الإنسان قد يُقدِّم العزم على العمل، فيقول في نفسه، إن أعطاني الله تعالى ولاية عدلت فيها. فهذه عزيمة تحتاج إلى صدق؛ لأنه بمنزلة التمام والقوة لها كيلا يضعف أو يتغير وقت التنفيذ، ولذلك قال، صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق، بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه).
رابعًا: الوفاء بالعزم: ذلك أن النفس قد تسخو بالعزم في الحال، إذ لا مشقة في الوعد والعزم. لكن إذا حقت الحقائق وحصل التمكن، وهاجت الشهوات، انحلت العزيمة، ولم يتفق الوفاء، ولهذا مدح الله تعالى هؤلاء المؤمنين الذين وفوا بعزائمهم، فقال سبحانه: (رِجَالٌ صَدَقُوا۟ مَا عَـٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب: 23).
خامسًا: الصدق في الأعمال: وهو أن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به، وعلى المسلم هنا أن يستجر الباطن إلى تصديق الظاهر.
سادسًا: الصدق في مقامات الدين: وهو أعلى الدرجات وأعزها، ومن أمثلته: الصدق في الخوف، والرجاء، والتعظيم، والزهد، والرضا، والتوكل، وحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن أهم فضائل الصدق:
أولًا: الصدق في القول يؤدي إلى الصدق في العمل والصلاح في الأحوال، يقول تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَقُولُوا۟ قَوۡلًا سَدِیدًا یُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَـٰلَكُمۡ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ) (الأحزاب: 70 – 71)، فالصدق في القول يؤدي إلى الصدق في الفعل، وهذا هو العمل الصالح.
ثانيًا: الصدق يهدي الإنسان إلى البر والخير، وقد بيّنه الله في قوله تعالى: (لَّیۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ وَٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ وَٱلسَّاۤىِٕلِینَ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَـٰهَدُوا۟ وَٱلصَّـٰبِرِینَ فِی ٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَحِینَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ) (البقرة: 177).
ويقول النبي، صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب كذابًا).
ثالثًا: الصدق فيه النجاة، يقول تعالى: (قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا یَوۡمُ یَنفَعُ ٱلصَّـٰدِقِینَ صِدۡقُهُمۡۚ لَهُمۡ جَنَّـٰتٌ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۤ أَبَدًاۖ رَّضِیَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُوا۟ عَنۡهُۚ ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ) (المائدة: 119)، أي أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة. وفي الحديث: (تحروا الصدق، وإن رأيتم أن الهلكة فيه، فإن فيه النجاة).
رابعًا: الصدق فيه الربح والفوز، عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة).
وعليه نجد أن الإسلام لا يُعلِّم المسلمين فضيلة الكلمة الصادقة وحسب، ولكنه يعلمهم، أيضًا، كيف يجب أن يكون تلقيهم لها، وكيف يجب أن تكون كفالتهم لها ولأهلها، وكيف يجب أن يكون مسلكهم إزاء الكذب والتضليل.
قال أمير الشعراء أحمد شوقي: والمرء ليس بصادق في قوله.. حتى يؤيد قوله بفعاله.
نقلاً عن صحيفة “الشرق”.