استقبال رئيس شرعي أم قائد قوات متمردة؟
قام قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو المعروف بـ “حميدتي”،[1] في الفترة بين ديسمبر من العام الماضي ويناير الجاري، بزيارات خاطفة إلى عدد من الدول الإفريقية، فقد زار حتى الآن أوغندا، إثيوبيا، جيبوتي، كينيا، جنوب إفريقيا، ورواندا. وفي كل هذه الدول تم ترتيب الزيارات بعناية فائقة تظهر الزائر وكأنه الحاكم الشرعي للسودان، ففي إثيوبيا مثلًا التقطت صور حميمية لحميدتي مع آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا وهما يسيران بأيدي متشابكة؛ فيما جرت كافة المباحثات بينهما في مبنى وزارة الدفاع[2]. أما في كينيا فقد تم استقباله بمراسم استقبال الرؤساء؛ وفُرش له البساط الأحمر وكانت الحفاوة ظاهرة تخلَّلها العناق بالأحضان وكلمات المجاملة، وكذلك كان الاستقبال في جنوب إفريقيا وكان رئيسها متحمسا لدرجة أنه كتب تغريدة في منصة إكس ذكر فيها بأنه استقبل سعادة الرئيس السوداني محمد حمدان دقلوا ولكنه عاد وحذفها بعد حين.
أما آخر زيارة لحميدتي فقد كانت لرواندا وكانت أكثرها إثارةً للسخرية والشفقة حيث زار الرجل موقع النصب التذكاري للإبادة الجماعية في كيغالي التي حدثت في عام 1994م وهناك شاهد صور الضحايا وكأنه يطلب التكفير لقواته التي مارست إبادة جماعية وتطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية في كل أنحاء السودان.
قمة الإيقاد الاستثنائية واللقاء بمن تبقى من الرؤساء والمسؤولين
في خضم جولاته هذه تم دعوته لحضور قمة “الإيقاد” الاستثنائية 42 في 18من يناير الجاري في مدينة عَنْتَيبِّي الأوغندية، والتي كانت مخصصة لبحث الأزمة السودانية، والأزمة بين الصومال وإثيوبيا، وكأن هذه القمة عقدت من أجل إكمال الزفة وحسن الختام لجولة حميدتي وكذلك لإكمال مقابلاته مع بقية رؤساء الدول في المنطقة، حيث قابل هناك رئيس جنوب السودان سلفاكير والرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، والتقى أيضًا رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي، ورمطان لعمامرة المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان، ومبعوثة الاتحاد الأوروبي للقرن الإفريقي، وعدد من المسؤولين، ويتوقع أن تتاح له فرص أخرى لمقابلة مزيد من المسؤولين وأيضًا أن تمتد زياراته إلى بلدان إفريقية وعربية أخرى.
ويتساءل المراقبون عن مغزى هذه الزيارات المتوالية؛ واللقاءات المحمومة؛ والاتصالات العلنية والخفية؛ وعن مضمونها، وما يمكن أن يترتب عليها من نتائج في ظل التحديات الإنسانية والسياسية، واستمرار الحرب والنهب والتشرد؛ وتفاقم معاناة الشعب السوداني، ومن أبرز التساؤلات؛ هل يمكن لهذه الزيارات أن تفتح آفاقاً سياسية جديدة بعد تسعة أشهُر من الحرب المدمرة؟ أم أنها سوف تزيد المشهد تعقيدًا؟ أم أنها مجرد مناورات وتشويش وأحلام لدي حميدتي وأعوانه لا أثر لها ولا تأثير في الواقع السوداني السياسي والإنساني؟
عن هذه وتلك تستعرض هذه القراءة الزيارات التي قام بها حميدتي على ضوء المعلومات والمعطيات المتوفرة حتى هذه اللحظة.
تحركات قائد الدعم السريع الأخيرة على أهميتها وتأثيرها لم تحظ بالاهتمام والرصد الكافي والتحليل العميق من أجل تصور مستقبل الأوضاع السياسية وفهم أبعاد ما يجري في السودان وعلاقته بالخارج ومدى تشابك الحراك المحلي والإقليمي والدولي، وحقيقة المعارك الإعلامية والدبلوماسية التي تحاك ضد الدولة السودانية وما هي السبل المتاحة التي تساعد في توقف الحرب ورفع المعاناة بعيدًا عن هذه المناورات؟
وقد تناولت جميع وسائل الإعلام خبر زيارات حميدتي دون الغوص في أسبابها وتداعياتها ومن يقف وراءها وما يمكن أن تجره على الأوضاع الإنسانية والعسكرية، وما يمكن أن تقدمه من حلول أو تسببه من المزيد من الآلام والتعقيد في المشهد السوداني.. بينما التزمت معظم دول العالم الصمت والترقب، ولم تبد أي ملاحظات حول التحالفات الإقليمية الجديدة والمسار السياسي والعسكري الذي بدأ يتشكل لحل معضلة السودان ودور حميدتي في هذا المشهد!
إن هذه الزيارات مستغربة من حيث أنها أتت وبينما كانت التوقعات تتجه صوب اجتماع دعت له الهيئة الحكومية للتنمية “إيقاد” في جيبوتي بين الرئيس السوداني عبد الفتاح البرهان وقائد الميليشا “حميدتي” والتي أُعلن عن تأجيلها بسبب عدم تمكُّن الأخير من الوصول لمكان الاجتماع لأسباب فنية لم يتم الإفصاح عنها، وكانت هناك وعود لترتيب اللقاء في يناير، ولكن في اليوم التالي من إعلان عدم تمكن حميدتي لحضور اللقاء ظهر في أوغندا ومنها كانت انطلاقته إلى معظم الدول الأعضاء في المنظمة، فما الذي دفع دول الإيقاد لاستقبال حميدتي في هذه الظروف وهذا التوقيت بالذات؟ وهل هذا يساعد في إحلال السلام؟ وبأي صفة لرؤساء يحترمون أنفسهم ودولهم أن يستقبلوا قائد مليشيا ومتهم بارتكاب جرائم إبادة وتطهير عرقي ومطلوب للعدالة منذ أن كان أحد أدوات الرئيس المخلوع عمر البشير، واليوم يمارس نفس المهمة.. كما أن هذه الزيارات مستغربة بسبب الطريقة التي تم استقبال حميدتي بها حيث تم استقباله كرئيس دولة وليس كزعيم فصيل متمرد يخوض حرباً ضد حكومة دستورية.
ظهور بعد اختفاء وصدمة وسط الشارع السوداني
لقد كانت زيارة حميدتي لهذه الدول مفاجئة؛ وصادمة لكثير من السودانيين، ما أثار جدلًا واسعًا في الساحة السياسية والإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، فقد جاءت بعد غياب دام أكثر من ستة أشهر عن الساحة ولم يكشف حتى الآن عن موانع عدم ظهوره طيلة هذه الفترة – وقد انتشر خبر وفاته وأصبح يسمى بالهالك والمقبور، ولذلك عند أول زيارة خارجية إلى أوغندا تلقى السودانيون الخبر بين مصدق ومكذب، فكذب بعضهم هذا اللقاء، وادعى البعض بأنه كان مع كائن اصطناعي – روبوت – أو أنه كان مع شبيه لحميدتي تم تغيير ملامحة ليبدو وكأنه هو، وسرد آخرون روايات من الخيال السوداني عن “البعاتية” الذين يخرجون من القبور،[3] وتخبط معظم الصحفيون في تفسير الحدث وكان التفسير الأقرب إلى وجدان الكثير من السودانيين هو الذي ذكره أكثر من واحد من المحللين: بأن حميدتي وإن بدى أنه حيٌ جسدياً إلا أنه مات إنسانياً وأخلاقياً وسياسياً وأن كل الأحلام والأوهام والوعود عن الديمقراطية والسلام قد تبددت، وأنه لا اعتبار لوجوده بعد الذي حصل من قواته، وكثير من عامة الناس تمنَّوْ موته حتى تطوى صفحته السوداء نهائيًا ويتخلص السودان من شره فلا يرون فائدة ترجى من وجوده بعد الذي حصل؛ ولا يريدون عودته إلى الخرطوم ليشارك في حكمها بعد أن دمرها – مع سبق إصرار – وشرد أهلها وسرق أموالها من البنوك والبيوت والجيوب؛ ويعتقدون بأن السودان لا حاجة له بديمقراطية النهب والقتل والسلب والاغتصاب والتخريب.
عموما فإن ظهور حميدتي مثَّل صدمة لكثير من الأوساط الشعبية والسياسية في السودان، ولمحبي السودان وللشعوب الحرة الذين ظنوا أنهم تخلصوا من أحد مجرمي الحرب الذين نهبوا خيرات السودان وسلموها لأعدائه وفتحوا شهيتهم للتآمر عليه وتدميره وإخراج أهله منه غصبًا عنهم، وأعينهم تفيض من الدمع والحسرة والأسى.
لقد عانى الشعب السوداني نتيجة هذه الحرب التي أشعلها حميدتي ومن يقف وراءه لأهداف وأغراض سياسية واقتصادية وعنصرية ، وتسببت في أكبر أزمة نزوح في العالم (أكثر من عشرة ملايين نازح) ، ودمرت البنية التحتية للبلاد التي باتت مهددة بخطر المجاعة وفق الأمم المتحدة، وأصبح أكثر من نصف الشعب السوداني مشردين؛ ونازحين؛ ولاجئين؛ داخل وخارج البلاد، وفقدوا كل ما يملكون، وعم البلاد الحزن والفقر والبؤس والألم، وباتوا ينتظرون المعونات، وقد انتهكت حُرُماتهم؛ وسرقت أموالهم؛ وبددت أحلامهم وآمالهم في العيش بأمن وسلام، وارتكبت بحقهم جرائم وفظائع ترقى إلى جرائم الإبادة الجماعية مثلها مثل ما حدث في رواندا وما ترتكبه “إسرائيل” في غزة. وقد فشلت حتى الآن محاولات إنهاء الحرب من خلال المفاوضات والتي تتقاذفها دول عديدة فيما بينها دون التوصل إلى حل.
الدوافع الحقيقية من استقبال حميدتي بهذه الحفاوة
ورد في التصريحات الرسمية لهؤلاء القادة تبرير واحد كرره جميعهم يفسرون به سبب استقبالهم لقائد قوات الدعم السريع وهو ما وصفوه بالعمل من أجل دفع جهود تحقيق السلام والاستقرار في السودان، وتسخير كافة الإمكانات لمساعدة السودانيين على تجاوز هذه المرحلة الصعبة.[4] إلا أن بعض المصادر تشير إلى سبب هام دفع القادة الأفارقة إلى احتضان قائد الدعم السريع وهو انتصارات قواته في غرب ووسط السودان عندما استولت قواته على أكبر مدن السودان بعد الخرطوم وهي ود مدني وباتت تهدد مجمل الشرق، فقد نشرت مجلة الاكونمست مقالًا لمراسلها في نيروبي في 20 يناير 2024م بعنوان[5]: أسوأ أمراء الحرب يفوز The Worst Warlord is Winning وعَزَت الاستقبال الحافل من قبل القادة الأفارقة إلى الانتصارات الأخيرة لقوات الدعم السريع على الأرض ونتيجة فشل المفاوضات.
واضح بأن هذه الزيارات لا تأتي في إطار دفع جهود تحقيق السلام والاستقرار في السودان كما صرح القادة الأفارقة، لأنه لا يعقل تحقيق ذلك باستقبال من أشعلها استقبال الرؤساء، فقد ظلوا يتفرجون على الأوضاع المأساوية كل هذه الفترة في انتظار وعود الدعم السريع بتحقيق الانتصارات العسكرية فكان احتلال ود مدني انطلاقة مرحلة جديدة وتحول من أجل إحياء حميدتي وبعثه من القبر الذي وضعه فيه الشعب السوداني، معتقدين بأنه سيكسب المعركة في نهاية المطاف.
وهناك من يربط هذه الزيارات بعدد من المقامرات والأهداف الخفية دفعت رؤساء هذه الدول الإفريقية لاستقبال حميدتي وكأنه الرئيس الشرعي للسودان وتم تجاهل مساعي ومحاولات الحكومة السودانية بقيادة الفريق البرهان.
أول هذه الأبعاد هو سعي قادة هذه الدول للتستر على الجرائم والفظائع غير الإنسانية التي ارتكبها الدعم السريع في حق السودان والسودانيين بتحالف ودعم من قوى دولية إقليمية وحشد لمليشيات قبلية محلية وإقليمية واستئجار لمرتزقة دوليين.
وكذلك السعي لتبرئة حميدتي والقوى المتحالفة معه – الحرية والتغيير – من تهمة المحاولة الانقلابية على الشرعية الدستورية وإشعال الحرب في الخامس عشر من شهر إبريل الماضي، ومن أجل إيجاد دور للرجل وتسويقه لدى القوى الإقليمية والدولية كقائد يمكن الاعتماد عليه لحل الأزمة السودانية وإحلال السلام والأمن في المنطقة، فمعظم هذه الدول لها علاقات وثيقة مع الدعم السريع، وكلها تدعم حميدتي دبلوماسيًا وسياسيًا وإعلاميًا بل وبعض هذه الدول مثل أوغندا وجنوب السودان تدعمه عسكريًا بإدخال الأسلحة والمرتزقة عبر حدودها مع السودان.
كما أن هذا الاستقبال كان يهدف للضغط على البرهان وتهميشه واقصائه من المشهد السياسي في حال لم يتخلَّ عن تصلبه بعدم قبول حميدتي ومليشياته (الدعم السريع) وتحالف قوى الحرية والتغيير والتي غيرت جلدها وسمت نفسها تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، وهو الآن يقف لوحده في مواجهة هجوم سياسي ودبلوماسي من كل الاتجاهات، وفي ظل تزايد الضغوط الأوروبية بحظر عدد من الشركات المهمة يمكن أن تكون هذه بادرة وبداية لضغوط قادمة تدريجيًا، فما يسمى بالمجتمع الدولي يصر على عودة السودان تحت قيادة تحالف قوى الحرية والتغيير (تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية) وتفكيك الجيش السوداني وتشريد شعبه وجهود بعض الدول التي استقبلت حميدتي ما هي إلا من أجل الدفع في هذا الاتجاه.
بعض هذه الدول تريد أو تطمح لتفكيك السودان إلى دويلات ولها أطماع في موارده الهائلة؛ فالبعض يطمع في الموانئ والبعض في الذهب والبترول وآخرين في المياه وهناك من يريد السوق وبتفكيك السودان وانهيار جيشه تسهل السيطرة على كل هذه الموارد.
من الأبعاد أيضًا ما يشاع بأن قادة هذه الدول تلقوا رشاوى من أجل ترتيب وقبول زيارة حميدتي وأن دولة إقليمية وراء هذه الأفعال وهو ما رجحته صحيفة الإيكونيميست فمعظم هذه الدول تسعى لعلاقات مع هذه الدولة ولن تتردد في الاستجابة لطلباتها خاصة عندما يتعلق الأمر بالسودان الذي لا يأبه أحد في الوقت الحالي لعواقب ردة فعله، خاصة وأن حميدتي كان يستغل طائرة مسجلة في هذه الدولة [6] كما أن هذه الزيارات تم ترتيبها على مستوى عال بواسطة مجموعة شركات علاقات عامة دولية وإقليمية تعتمد في نشاطها على الرشاوى والوعود والتضليل، وسخَّرَت فيها هذه الدولة علاقاتها الدبلوماسية؛ بغرض تسويق الرجل في المحيط الإفريقي المجاور للسودان، وترويجه في سوق السياسة بالإقليم[7] فقد توسع دعمها لقوات الدعم السريع هذه المرة ليشمل دعم دبلوماسي على مستوى إفريقيا والعالم وهو ما يتوقع أن يؤجج الصراعات المحتملة في منطقة القرن الإفريقي.
يعتقد أيضًا بأن تضليلًا ممنهجًا حصل لبعض قادة هذه الدول وخاصة مع رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا فقد تم ترتيب مسرحية زيارة حميدتي لجنوب إفريقيا بواسطة شركات علاقات عامة متخصصة ساعد في ذلك استخدام هذه الدولة لثقلها الدبلوماسي، وتدخل مجموعة حمدوك رئيس الوزراء السابق ورئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) الذين عملوا على إفشال مبادرة جنوب إفريقيا لحل الصراع السوداني[8] وفق الطريقة التي حلت بها الصراع بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير شعب تجراي في نوفمبر 2022م.. وبعد الالتفاف على المبادرة تم إقناع سيريل رامافوزا باستقبال حميدتي ليتحول الموقف العام لبلده من الحياد الكامل إلى موقف غير واضح بشكله الجديد حتى الآن .
وإنه من المسائل المحيرة فعلا ويستدعي التساؤل لماذا تقف كل هذه الدول ضد حكومة السودان الحالية؟ ولماذا يدعمون المتمردين عليها بالمال والسلاح والعلاقات الدبلوماسية؟
لقد وقف السودان مع معظم هذه الدول ودعم حركات التحرر الإفريقي حتى حصلت على استقلالها وحققت كرامتها، وساهم في جهود إعادة استقرارها في وقت قل فيه النصير، علاوة على احتضان السودان لآلاف اللاجئين من شتى دول إفريقيا.
وأخيرًا فإن مما لا شك فيه بأن الاستقبال الذي حظِيَ به قائد الدعم السريع والإمكانات التي توفرت له بعد ظهوره المفاجئ تنطوي على مخاطر ومؤامرات أكبر مما نتصور تتم رعايتها وتمويلها من جهات قادرة تتضمن رسائل عديدة تحتاج إلى تحرك سريع ورد فعل مدروس.
الأبعاد والدوافع الحقيقية لحميدتي من هذه الزيارات
حاول حميدتي تسويق نفسه كرجل سلام ويسعى من أجل المفاوضات وأنه حريص على حقن الدماء، وأخذ يردد ذات العبارات في جميع المناسبات كما لو كان روبوت حيث كرر عبارة استعداده غير المشروط للتفاوض من أجل تحقيق سلام عادل وشامل.[9] في تقديرنا هذه محاولة صعبة وبعيدة المنال إن لم تكن من المستحيلات بالنسبة لحميدتي، ومن الصعب هضمها واستيعابها بالنسبة للشعب السوداني في ظل تصرفات قوات الدعم السريع البربرية واحتلالها لمنازل المواطنين؛ والأعيان المدنية من مستشفيات ومدارس وجامعات ودور رياضية؛ ونهب أموال المواطنين وممتلكاتهم وانتهاك أعراضهم والتي يتم عرض صورها عبر وسائل التواصل الاجتماعي على الهواء مباشرة في كل دقيقة وثانية.
أما الدوافع الحقيقية فتتمثل في أن قيادة الدعم السريع بدأت تتخذ خططًا جديدة حول التفاوض مرتبط بالانتصارات العسكرية والدعاية الإعلامية والتنسيق مع ما تبقى من قوى الحرية والتغيير وإرباك حكومة بورتسودان وتضييق خياراتها من أجل الاستسلام والقبول بعودة المشهد السياسي كما كان قبل اندلاع الحرب في 15 إبريل 2023،[10] فبعد الانتصارات العسكرية التي حققها الدعم السريع وتمدده في ولاية الجزيرة في وسط السودان غلب لديهم إحساس بإمكانية تحقيق انتصارات أخرى وكانوا في حاجة إلى ظهور قائدهم بعد اختفائه فترة طويلة، وبالتزامن يقوم بتنفيذ نشاطات سياسية وإعلامية كبيرة على المستوى الإقليمي والدولي ترفع أولًا معنويات قواته على الأرض، وتَكسب المزيد من المؤيدين من زعماء بعض القبائل والمجموعات المسلحة الأخرى، كما تعطي زخمًا إعلاميًا للانتصارات العسكرية وفي نفس الوقت تنشر الرعب وسط المواطنين وتبعث فيهم اليأس والقنوط من مستقبل البلاد، وتدفعهم لمغادرة البلاد فورا[11] ولذلك اعتذر حميدتي عن اللقاء الذي كان مرتقبا مع البرهان في جيبوتي على الرغم من استعداد الأخير للحضور، وظهر حميدتي بعدها ليقوم بهذه الجولات مما يدل على وجود تغيير مفاجئ في الخطط السابقة.
ينبغي الإشارة إلى أن هذه الزيارات ترتبط ارتباطًا كبيرًا بطبيعة جهود تلك الدولة ودوافعها بشأن ترتيبات الوضع في السودان، وتقمص حميدتي لدور سفير السلام ما هو إلا غطاء؛ فلا سند من منطق أو عقل أو حتى الواقع الماثل، فهل ستجني تلك الدولة حصاد هذه الزيارات أم أنها فشلت لأنها وضعت بيضها في المكان غير المناسب وحضنته في الزمان الغير المناسب.
من ناحية أخرى فإن حميدتي اليوم يجني ثمار ما زرعه خلال فترة حكم تحالف العسكر مع المدنيين عندما كان يتقلد منصب نائب رئيس مجلس السيادة حيث نجح الرجل في نسج علاقات واسعة مع دول عديدة، ويتمتع بعلاقات متقدمة مع قادة إثيوبيا وكينيا وأوغندا وجيبوتي، ولديه مجموعة استثمارات في بعض هذه الدول لم يكشف عنها حتى الآن.
موقف حكومة بورتسودان
كان موقف الحكومة السودانية بقيادة رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان والتي تتخذ من بورتسودان مقرا لها بعد انسحابها من الخرطوم – قويًا جدًا ومناسبًا وإن لم يكن على قدر الحدث وأهميته وحيث لم تكن المواقف شاملة ولا تحمل رؤية واضحة أو مبادرات بديلة واتسمت بالبطء وعدم المواكبة في تحركاتها لمواجهة وإفشال الاختراقات الدبلوماسية لقائد الدعم السريع ومن يقف وراءه من القوى الإقليمية والدولية، فقد دعا البرهان الدول التي تستقبل “القتلة” حسب وصفه إلى التوقّف عن التدخل في الشؤون السودانية “لأن أيّ تسهيلات تُقدّم لقيادة المجموعة المتمرّدة تعدّ شراكة في الجُرم، وشراكة في قتل شعب السودان وتدميره”.[12] ووصف البرهان استقبال القادة الأفارقة لقائد الدعم السريع بأعمال عدائية وسحب سفراءه من كينيا ورواندا بغرض التشاور والتي لم تظهر نتيجته حتى الآن حسب متابعة الكاتب للموضوع.
ونَقلت وكالة السودان للأنباء (سونا) عن وزير الخارجية السوداني علي الصادق القول أنه تم سحب سفير السودان في كينيا للتشاور الذي سيغطى كل الاحتمالات لمآلات علاقات السودان مع كينيا، ولكنه لم يذكر وضع سفرائه في الدول الأخرى التي زارها زعيم قوات الدعم السريع.[13]
وكان البرهان قد اتهم – في مقابلة مع قناة الجزيرة الإنجليزية – حميدتي بـ”نكث العهود”، مطالبًا بتصنيف قوات الدعم السريع منظمة “إرهابية”، وسبق أن اتهم “إيقاد” بإضفاء الشرعية على “ميلشيا” حميدتي من خلال دعوته إلى اجتماع يحضره رؤساء الدول والحكومات الأعضاء، كما اتهمها بالتحيّز والسعي إلى التدخل في الشؤون الداخلية للسودان، مع تأكيده على مواصلة المفاوضات للتوصل إلى حل سلمي للحرب التي أودت بحياة الآلاف.
انعكاسات ظهور وتحركات قائد قوات الدعم السريع على المشهد السياسي والأمني في السودان
سياسيا وضعت تحركات حميدتي الأخيرة رئيس مجلس السيادة الفريق البرهان في موقف حرج حيث لم تترك له المجال لقبول الجلوس مع حميدتي مرة أُخرى في المستقبل القريب[14] ، كما أنها أفشلت مبادرات الإيقاد لجمع الرجلين في مائدة واحدة بل وأدت إلى القطيعة بينمها، وأخرجت كل الدول التي استقبلت حميدتي من أن تكون راعية للمفاوضات بين الطرفين في المستقبل، ولم يتبقى حاليا غير منبر جدة لمواصلة المفاوضات، وعلى الرغم من ذلك فإن مساعي حل الصراع سلميا يبقى خيارًا مطروحًا؛ ومنطق الجغرافيا يفرض على الحكومة السودانية أن تتعامل مع دول الجوار وتحاول إقناع القادة الأفارقة بتعديل مواقفهم تجاه ميلشيات الدعم السريع وقائدها حميدتي خاصة وأن إثبات جرائمه لا تحتاج إلى كثير شرح وعناء فهو مشهود ومعروف يسنده الواقع وتقرره وثائق وتقارير الأمم المتحدة وكافة وسائل الإعلام.
ظهور حميدتي وتحركاته الدبلوماسية الأخيرة رفعت معنويات مقاتلي الدعم السريع خاصة وأنها جاءت بعد الانتصار الكبير والمفاجئ في ولاية الجزيرة ودخول مدينة ود مدني الاستراتيجية، وكان لها تأثير كبير في إعادة تماسك القوات بعد أن خارت معنوياتها وأصبح لا معنى لانتصاراتها في ظل غياب القيادة السياسية، وكانت القيادات العسكرية لقوات الدعم السريع تعاني من عدم السيطرة والتحكم على بعض قواتها التي تحولت إلى وحدات منفصلة من اللصوص وقطاع الطرق، كما أن الدعاية الإعلامية الكبيرة التي حركتها جهات عديدة مناصرة لحكومة البرهان والتي عزفت على وتر موت حميدتي لعبت دورًا كبيرًا في إضعاف معنويات مقاتلي الدعم السريع وبعض زعماء القبائل المناصرين لهذه القوات.
أثناء وبعد جولة حميدتي تزايدت سخونة الأوضاع العسكرية وشهدت الخرطوم وما حولها وكذلك بعض ولايات دارفور وكردفان معارك ضارية استخدم فيها الطرفان المدفعية الثقيلة والطائرات المُسيرة، وتزايدت محاولات قوات الدعم السريع للتمدد باتجاه ولاية سنار وقد استولت على بعض القرى الواقعة شمال وغرب الولاية، وحاولت التقدم باتجاه مدينة القضارف وهددت بالزحف نحو بورتسودان حيث مقر الحكومة المؤقت.
انتصارات قوات الدعم السريع الأخيرة ودخولهم مدينة ود مدني والتي أعقبها ظهور حميدتي بهذه القوة كان له تأثير كبير على معنويات المواطنين حيث استيأسوا من تحسن الأوضاع في المستقبل القريب وأدى ذلك إلى حركة نزوح داخلية وخارجية غير عادية، وبدأ المقتدرون يغادرون البلاد إلى أي جهة خوفًا على أرواحهم وأعراضهم.
في المقابل ظهور حميدتي وتحرك مليشياته على الأرض كان له انعكاسه السياسي والأمني داخل السودان، فقد استجاب مواطنو الولايات التي لم تصلها قوات الدعم السريع لدعوة الحكومة السودانية للتسلح مما كان له الأثر المباشر في ردع قوات الدعم السريع من التقدم نحو ولايتي القَضارِف وولاية نهر النيل وأحست بأنها تُجَرُّ إلى فِخاخ في أرض لا تتمتع فيها بتأييد شعبي و وُوجِهَت بردة فعل معادية من جماهير ولايات سِنَّارْ والقضارف ونهر النيل حيث منيت بهزيمة في أطراف ولاية سنار (ود العباس) وكذلك أطراف ولاية القضارف (منطقة الفاو) والآن تواجه مقاومة شعبية مساندة للجيش من ولاية نهر النيل في التُخوم الشمالية لمدينتي الخرطوم بحري وأم درمان المحاذيتين لولاية نهر النيل، مما ساعد الجيش في بسط سيطرته على مدينة أم درمان وبدأ زحفه للسيطرة على مدينة الخرطوم بحري.
صحب ذلك تلاشى أي تأثير لقوى الحرية والتغيير في الداخل والتي فقدت التأييد الشعبي ويتجلى ذلك في القرارات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة والمتعلقة بحل لجان المقاومة في الولايات؛ فاتخاذ قرار الحل قبل الخامس عشر من أبريل كان شبه مستحيلًا لقوة لجان المقاومة الذراع الجماهيرية لقوى الحرية والتغيير؛ وبخلو العاصمة السودانية من سكانها وتشريدهم ونهب ممتلكاتهم فقدت قوى الحرية والتغيير سندها الجماهيري وبموالاتها للدعم السريع فقدت كل شيء.
وفي الفترة الأخيرة بدأ الجيش السوداني في تحقيق انتصارات على مليشيات الدعم السريع في مدينة أم درمان وكذلك في مدينة الخرطوم بحري وفي حال تمكنه من السيطرة على هاتين المدينتين ستنتقل المواجهة إلى مدينة الخرطوم وعندها سيبدأ العد التنازلي لاندحار مليشيات الدعم السريع التي تواجه رفضًا جماهيريًا من أغلب مكونات المجتمع وذلك لما ارتكبته من فظائع تجاه المواطنين السودانيين من قتل على الهوية؛ ونهب الممتلكات، واغتصاب، فظهرت كقوة غاشمة ليس لها مشروع، ولا تخضع لقانون، وتفتقر إلى الانضباط العسكري.
______________________________________________________________
[1] كان الرجل الثاني في السلطة قبل اندلاع الحرب وقد تم تجريده من كل المهام والألقاب ويتم وصفه الآن بالمتمرد وتحمله الحكومة مسؤولية اندلاع الحرب واستمرارها وتتهمه بارتكاب جرائم بحق الشعب السوداني وتدمير البلاد، كما طالبت الحكومة بإدراج قواته في قائمة المنظمات الإرهابية ولكن لم يتم الاستجابة من أي دولة أو منظمة دولية أو إقليمية حتى الآن ويتحرك بحرية ويستقبل على مستوى الرؤساء.
[2] يعتقد بأن لديه مع أشقائه استثمارات كبيرة بأديس أبابا.
[3] انتشر خبر وفات حميدتي وادعى البعض بأنه حضر مراسم دفنه وانتشرت الشائعات حوله وصار مصدرا للنكته الساخرة واللعنات.
[4] تصريحات موسفيني.
[5] The Economist 01_20_2024 www.economist.com
[6] طائرة “إيه-6 آر جيه إف” (A6-RJF) “رويال جيت بوينغ 737-700”.
[7] أسرار ودوافع زيارة حميدتي لجنوب إفريقيا، الصادق الرزيقي 7/1/2024 موقع الجزيرة.
[8] نفس المصدر.
[9] حميدتي على حسابه بمنصة إكس (تويتر سابقا).
[10] وهو ما يعنيه حميدتي بالحل الشامل في تغريداته.
[11] فقد ارتفعت وتيرت الهجرة إلى مصر وإلى جميع الاتجاهات بعد ظهور حميدتي وقيامه بزيارات مكوكية على مستوى القارة.
[12] خطاب البرهان بمناسبة ذكرى استقلال السودان في الأول من يناير.
[13] وكالة السودان للأنباء (سونا) 4-يناير 2024.
[14] كان البرهان على استعداد للجلوس مع حميدتي وكان يتهيأ للسفر إلى جيبوتي لو لا إعلان تأجيل اللقاء لعدم تمكن الأخير من الحضور.
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية – جامعة سيمد – مقديشو – الصومال.