قتل الأمريكيون حَمَلة السلاح 1768 أمريكياً منذ بداية العام الجاري وحتى 8 فبراير، وفقاً لإحصاءات أرشيف العنف المسلح بأمريكا، الذي أفاد أيضاً أن كل عام يتجاوز حاجز 20 ألف قتيل أمريكي بأيدي أمريكيين، وشهد عام 2023م وحده 656 حادث إطلاق نار جماعي في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بينما يعد على أصابع اليد الواحدة عدد الأمريكيين الذين قتلوا طوال السنوات العشر الأخيرة في الشرق الأوسط، ومع ذلك تنتج آلة الإعلام الأمريكية آلاف المقالات والأخبار والتقارير حول «العنف الإسلامي»، و«الإرهاب الإسلامي»، و«الحركات الإسلامية الإرهابية»!
ولم يتوقف استهداف المسلمين والعرب عند الإعلام، ولكنه بلغ ذروته في تصريحات الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترمب»، الذي قال: علينا مواجهة أو القضاء على «الإرهاب الإسلامي»، وتبعه الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» الذي استخدم التعبير نفسه، في إشارة إلى أن المؤسسات الأمريكية والأوروبية تتفق على إنتاج وتوظيف مصطلح الإرهاب لوضع جميع دول المنطقة تحت الفزاعة التي تجعلهم يسلِّمون للمطالب الأمريكية؛ خوفاً من بطش القوة القاهرة التي اتخذت أكثر صورها دموية في مشهد تدمير غزة، وإبادة شعبها.
تيارات يسارية وعلمانية ونشطاء حقوق الإنسان تقوم بالترويج الإعلامي والسياسي لفزاعة «الإرهاب»
صراع دموي
وفي السودان، تندلع منذ 15 أبريل 2023م أعمال عنف دموية، تقوم بها جماعات التمرد من «قوات الدعم السريع»، وهي مدعومة بفزاعة الإرهاب التي أنتجتها الإدارة الأمريكية، ويتبناها تابعوها في كل أنحاء العالم، حيث يزعم قائد «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وحاضنته السياسة «الحرية والتغيير- تقدم»، بزعامة عبدالله حمدوك، أنهم يطاردون فلول نظام عمر البشير من الإسلاميين، الذين يطلقون عليهم «الكيزان»، وأن الحرب الدائرة الآن هي لطرد «الكيزان» من الهيكل القيادي للجيش، وجميع مؤسسات الدولة، فيما يسمى بـ«محاربة التمكين».
ونجح منتجو فزاعة الإرهاب في تحويل الشعار إلى استثمار داخلي لعدد كبير من الدول العربية على رأسها السودان، حيث تتشكل من التيارات اليسارية، والعلمانية، ونشطاء حقوق الإنسان، ومجموعات سياسية تقوم بالدور الرئيس في الترويج الإعلامي والسياسي لفزاعة الإرهاب، وقد اعترفت مؤخراً رشا عوض، الناطق الرسمي باسم تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)، في مقابلة تلفزيونية لقناة «الجزيرة مباشر»، بتلقي الحركة التي يترأسها حمدوك، رئيس الوزراء السوداني السابق، دعماً مالياً من منظمتي «الشريكان الدوليان للحوكمة» الكندية، و«المعهد القومي للسلام»، التابع للحزب الجمهوري الأمريكي.
وكانت حكومة الثورة التي تشكلت عقب إسقاط البشير تتلقى جميع رواتبها ومصروفاتها من الاتحاد الأوروبي، عبر برنامج لدعم الديمقراطية في أفريقيا، ولم يتم هذا بشكل سري، ولكنه كان معلناً، حيث حددت وثيقة الاتحاد أن هناك 12 موظفاً بمكتب حمدوك أيضاً كانوا يتلقون رواتبهم بشكل مباشر من خارج وزارة المالية السودانية.
الحرب المستعرة بين الجيش و«الدعم السريع» شكلت أخطاراً جسيمة على وحدة السودان وتركيبته السكانية
وبالرغم من ارتكاب «الدعم السريع» جرائم حرب في كل المناطق التي احتلتها، وخاصة في ولاية غرب دارفور التي أفادت تقارير منظمات الأمم المتحدة أن «الدعم السريع» قامت بقتل 15 ألف من قبيلة المساليت وحدها، فإن رعاة «الدعم السريع» الدوليين لم يتوقفوا كثيراً أمام تلك الجرائم، ولا تزال الاتصالات مستمرة بقيادات هذه القوات في محاولة مكشوفة لإصباغ الشرعية على تصرفاتها داخل السودان، خاصة بعد نجاحها في السيطرة على أربع من ولايات دارفور الخمس، وأجزاء كبيرة من ولايات كردفان بالجنوب، وولاية الجزيرة الأهم والأكبر اقتصادياً بالسودان، واحتلال العاصمة السياسية الخرطوم، واستمرار السيطرة عليها منذ 15 أبريل 2023م حتى الآن، وقد تمت كل هذه العمليات بسبب استمرار تدفقات الأسلحة الحديثة والأموال على تلك القوات.
وقد شكلت تلك الحرب أخطاراً جسيمة على وحدة السودان، وعلى تركيبته السكانية، ليس لأن هناك جماعات إرهابية مسلحة تهدد المصالح الأمريكية والغربية بالبلاد، ولكن لأن هناك حالة رفض للهجمات الاقتصادية على ثروات السودان، حيث تتصارع الدول الكبرى من أمريكا، وأوروبا، والصين، وروسيا، لابتلاع مناجم الذهب، واليورانيوم، والنحاس، في غرب وشمال السودان، إضافة إلى ثروته الزراعية والحيوانية التي تشكل رابع أكبر مخزون للغذاء في العالم، وفقاً لبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة.
استهداف مستمر
ويعد استخدام فزاعة «الإرهاب» في السودان أحد الميادين الكبرى التي أنتج فيها هذا الشعار خراباً مستمراً منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن، حيث تم إخضاع البلاد لعشرات العقوبات تحت مزاعم مكافحة النظام الإسلامي الإرهابي في السودان الذي كان يقوده الثنائي حسن الترابي، وعمر البشير، ويمكن الإشارة إلى تلك العقوبات في الآتي:
1- أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية السودان على لائحة الدول الراعية للإرهاب في 12 أغسطس 1993م؛ وهو ما حرم السودان من الحصول على أي مساعدات أجنبية، ومنع حصوله على السلاح وكل ما يتعلق به.
لعنة فزاعة «الإرهاب» أصابت السودان بإزهاق الأرواح وتدمير المؤسسات ونزوح الملايين خارج مدنهم
2- قطعت أمريكا علاقتها الدبلوماسية مع السودان، وأوقفت عمل سفارتها في العاصمة الخرطوم، في عام 1996م؛ وهو ما شكَّل عزلاً سياسياً للسودان بين الدول الأوروبية.
3- أحكمت واشنطن حصارها على السودان في عام 1997م عندما فرضت عليه عقوبات اقتصادية مشددة؛ حيث قرر الرئيس الأمريكي الأسبق «بيل كلينتون» تجميد الأصول المالية للسودان، ومنع تصدير التكنولوجيا الأمريكية له، وحظر الاستثمار أو التعاون الاقتصادي معه، ولعل أخطر ما في هذا القرار هو اتباع الدول الأوروبية لواشنطن خاصة بعد إخراج البنوك السودانية من النظام المالي العالمي.
4- في أغسطس 1998م، ضربت الولايات المتحدة الأمريكية بالصواريخ مصنع الشفاء للأدوية بالعاصمة الخرطوم بزعم أن المصنع كان لإنتاج أسلحة كيماوية، على الرغم من أن المصنع كانت لديه تعاقدات مع الأمم المتحدة ومنظماتها الصحية لتوريد المضادات الحيوية للأمراض المستوطنة في الدول الأفريقية، وللأسف فإن هذه الضربة كانت باكورة التعاون مع جماعات سودانية محلية معارضة مع الولايات المتحدة لتنفيذ عمل عسكري ضد البلاد.
5- في عام 2006م، أصدر الكونجرس عقوبات أمريكية ضد مسؤولين سودانيين على رأسهم الرئيس البشير، ووزير دفاعه عبدالرحيم محمد حسين، ووزير داخليته أحمد هارون، وقيادي بمليشيا «الجنجويد» علي كشيب، وحمَّل الكونجرس هؤلاء المسؤولية عن جرائم إبادة جماعية مزعومة ضد القبائل الأفريقية في إقليم دارفور الذي اندلع به نزاع مسلح بين العرب والأفارقة في عام 2003م.
والعجيب أن الغرب وأمريكا يساندون اليوم تلك القبائل المتهمة بارتكاب جرائم حرب التي يتزعمها حميدتي في نزاعها مع الجيش السوداني، ويبدو أنهم كانوا مجرمين وإرهابيين عندما كانوا خارج السيطرة، وعادوا مدافعين عن الديمقراطية وحراساً لها عندما عادوا يتحركون في الفلك الأمريكي تحت راية مكافحة الإرهاب!
وهكذا أصابت لعنة فزاعة «الإرهاب» في السودان شعبه في أمنه؛ حيث تزهق الأرواح بشكل يومي، وتدمر المؤسسات المدنية والاقتصادية، وينزح ملايين السكان خارج مدنهم، ويتحول أكبر مخزون اقتصادي أفريقي إلى حالة من الخوف والقتل والدمار لم يسبق لها مثيل!