حكى القرآن الكريم قصة حرب وقعت بين بني إسرائيل وعدوهم جالوت، أسفرت عن ظهور بطل جديد على الساحة القيادية، الذي استطاع أن يقتل جالوت المُهاب، وأن يحسم المعركة لصالح بني إسرائيل، لينال إعجاب طالوت؛ مما دعاه أن يشركه في المُلك بعدما رأى فيه بطولة المرحلة، وقيادة المستقبل، قال تعالى: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) (البقرة: 251).
ومنذ تلك اللحظة، أصبح داود خليفة في الأرض، وقائداً فذاً لبني إسرائيل، حيث جمع الله تعالى له بين المُلك والنبوّة، فأنزل عليه «الزبور»، وألان له الحديد، وسـخَّر له الجبال والطير، وآتاه الحكمة وفصل الخطاب، وجمع له بين الدين والدنيا والآخرة.
زمن داود العصر الذهبي لدولة بني إسرائيل حيث تنعموا بالأمن والاستقرار والعدل والإصلاح
داود.. بين الإسلام واليهودية
حفلت الشريعة الإسلامية بجملة من المناقب الرفيعة التي تليق بجناب النبي المَلك، فقد صورت الشريعة زمن داود بأنه العصر الذهبي لدولة بني إسرائيل، حيث تنعموا بالأمن والاستقرار، والعدل والإصلاح، بل أشار القرآن إلى التقدم الصناعي والازدهار الاقتصادي الذي وصل إليه بنو إسرائيل في ظل حكم نبي الله داود عليه السلام، حيث اكتشفوا الحديد واستعملوه في صناعة الأسلحة والآلات الحربية(1).
قال الله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ {17} إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ {18} وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ {19} وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) (ص: 17)، وقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «كان داود أعبد البشر»، وفي الصحيحين: «أحب الصيام إلى الله صيام داود»، وفي رواية: «إنَّه كانَ أَعْبَدَ النَّاسِ»، «كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه»، وعند البخاري: «وَكان لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِن عَمَلِ يَدِهِ».
أما الكتاب المقدس (المحرَّف)، فقد عرض صورة متناقضة لنبي الله داود لا تتفق أبداً مع عصمته كنبي يوحى إليه، حيث يرى أن داود عاش بقلب منفتح نحو الله والناس منذ صبوته، في نقاوة وطهارة، مشتاقاً أن يخدم الله، وأن يبذل حياته من أجل الأمانة ورعاية الضعفاء، حتى في رعاية الخراف غير الناطقة، كان كذلك حتى صار ملكاً، فلما استقرت مملكته، وجاء بالتابوت إلى مدينته، بدأ يتهاون؛ فقد جاء في سفر «صموئيل الثاني» (6: 16): «ولما دخل تابوت الرب مدينة داود أشرفت ميكال بنت شاول من الكوة ورأت الملك داود يطفر ويرقص أمام الرب فاحتقرته في قلبها».
خصلة الكذب تعمّقت في اليهود وباؤوا بأدنى مراتبها وأبعدها فساداً وهو الكذب على الله
ولم يكتف اليهود بوصف داود بالرقص الحقير، بل تعدى الأمر إلى ما هو أقبح من ذلك، حيث زعموا أنه انحدر من خطيئة إلى أخرى، وكان يظن أنه قادر على إخفاء هذه الخطايا لولا أن وحيهم قد سجل هذه السقطات في شيء من التفصيل! جاء في سفر «صموئيل الثاني» (1: 5): «وَأَمَّا دَاوُدُ فَأَقَامَ فِي أُورُشَلِيمَ، وَكَانَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَنَّ دَاوُدَ قَامَ عَنْ سَرِيرِهِ وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَرَأَى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا، فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلًا وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا وَقد حَبِلَتِ الْمَرْأَةُ منه، هكذا بكل وقاحة»(2).
كلام بشع تفوح منه رائحة الوضاعة! فحاشا لداود المكرَّم أن يصدر منه ذلك، وحاشا للوحي الإلهي المنزّه أن يسطر في أنواره مثل هذه النجاسات! لكن اليهود هم اليهود، وهذا ديدنهم في الافتراء والكذب، على الله ورسله ووحيه وعلى عباد الله المؤمنين.
اليهود متخصصون في الكذب
الكذب من أقبح الصفات التي يتصف بها الناس، فهو عنوان الخسة والدناءة، وفساد الطوية وهو المطية لكل انحراف؛ لذا لا يتفق الإيمان مع الكذب أبداً، وقد تعمّقت هذه الخصلة في اليهود وباؤوا بأدنى مراتبها، وأبعدها فساداً؛ وهو الكذب على الله عز وجل الذي لا تخفى عليه خافية، قال الله تعالى عنهم: (انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً) (النساء: 50)(3).
اليهود ينظرون إلى نبي الله داود وابنه سليمان على أنهما أجداد للصهيونية المعاصرة
ومن استساغ الكذب على الله فلن يضيره أن يكذب على رسله وعلى الناس أجمعين، قال تعالى: (أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (البقرة: 87)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن عبدالله بن سلام رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود ودخل عبدالله البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي رجل فيكم عبدالله بن سلام؟»، قالوا: أعلمنا، وابن أعلمنا، وأخيرنا، وابن أخيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفرأيتم إن أسلم عبدالله؟»، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبدالله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: شرنا، وابن شرنا، ووقعوا فيه! (رواه البخاري).
مملكة داود.. بين الحقيقة والوهم
ينظر اليهود إلى نبي الله داود، وابنه سليمان، على أنهما أجداد للصهيونية المعاصرة، حيث حفلت التوراة بالحديث عن مملكة كبرى، في العصر الحديدي، قويَّة، وذات سيادة مستقلَّة، ومؤسِّسها داود، مثّلت هذه المملكة أعظم إمبراطوريّات المشرق العربي؛ فقد امتدت حدودها لتُغطّي كل بلاد الشام، ولم تقتصر على فلسطين، فحسب.
جاء في سفر «صموئيل الثاني»، وسفر «المُلوك الأول»، أنَّ المَلِك داود، أقامَ إمبراطورية، تمتدُ بين النيل، والفرات، أورثها لسليمان بعد وفاته، كما أشادت التوراة بعصر داود، وسليمان، باعتباره العصر الذهبي لـ«إسرائيل»، لما فيه من الإنجازات الصناعية، والثقافية، والعمرانية، والإدارية، والعسكرية.
لا يوجد دليل يشير إلى وجود المملكة الداودية بفلسطين بالصفة المذكورة بالكتاب المقدس
وبناء على هذه النظرة المزعومة، فإن دولة «إسرائيل» الحديثة، ترجع مُطالبتها التاريخية، والطبيعية، إلى دولة العصر الحديدي تلك، فقد أشار إعلان الاستقلال لدولة «إسرائيل» الحديثة -الذي أصدره مجلس الأُمَّة المؤقَّت في «تل أبيب»، بتاريخ 14/ 5/ 1948م- إلى «إعادة بناء الدولة اليهوديَّة»، وليس كما فهمه البعض على أنه مجرد إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين(4).
ولكن، هل كان بالفعل مملكة داودية سليمانية عظيمة، مترامية الأطراف، عاصمتها القدس كما جاء في نصوص التوراة؟ الجواب: لا؛ لأن الباحثين التوراتيين، وكذلك علماء الآثار، قد بحثوا عن دولة كبرى، في العصر الحديدي، قوية، وذات سيادة مستقلة، ومؤسِّسها داود، وتصوَّروا أن هذه المملكة قد وُجِدَت بالفعل لاعتمادهم على خطاب الدراسات التوراتية، إلا أنهم لم يتمكنوا من العثور ولو على أثر واحد يعود إلى تلك المرحلة، عُمرانياً كان، أم وثائقياً، أو نَقشِياً، أو أي دليل يشير صراحة أو ضمنياً إلى وجود المملكة الداودية في فلسطين بهذه الصفة المذكورة في الكتاب العبراني(5).
وهذا الانعدام المريب في المصادر التاريخية والمخلَّفات الأثرية، التي تدعم مزاعم السجل التوراتي قد أدى في السنوات الأخيرة إلى تصدع فكرة الإجماع على وجود المملكة الداودية، يقول مِلَّر: إنه ليس هناك دليل على المملكة الداودية خارج التقاليد والموروثات الكتابيَّة التوراتية؛ أما عن المؤرِّخينَ، الذين يتحدَّثونَ عن وجود هذا الكيان، إنما يفترضونَ مُسبقاً، صِحَّة المعلومات التي يأخذونها، من التوراة(6).
أما عالم الآثار «الإسرائيلي» إسرائيل فنكلشتاين، من جامعة «تل أبيب»، فقد شكَّكَ بوجود أي صِلَة لليهود بالقدس؛ وجاءَ ذلك خلال تقرير نشرته مجلة «جيروساليم ريبورت»، «الإسرائيلية»؛ توضِّح فيه وجهة نظر فنكلشتاين، الذي أكد أنه لا يوجد أساس، أو شاهد إثبات تاريخي على وجود هذا المَلِك المحارِب؛ الذي اتَّخذ القدس عاصمة له؛ والذي سيأتي «الميا» من صلبِهِ؛ للإشراف على بناء الهيكل الثالث؛ مؤكداً أن شخصية داود، كزعيم يحظى بتكريم كبير؛ لأنه وحَّد مملكتي «يهودا»، و«إسرائيل»، هو مجرَّد وهم، وخيال.
عالم آثار «إسرائيلي»: لا يوجد أساس تاريخي بوجود المَلِك المحارِب الذي اتَّخذ القدس عاصمة له
ويرى المؤرخ البريطاني كيث وايتلام أن وجود هذه المملكة غير قابل للتصديق إذ ليس هناك أي دليل أثري على وجودها(7).
وهذا ما أكده د. محمد عمارة في قوله: إن فكرة الدولة لم تكن موجودة في التراث اليهودي، وأن الدولة اليهودية بعد احتلال القدس عام 1967م أتوا برجال الحفريات والآثار في محاولة من المدرسة الأثرية التوراتية لأن تصطنع واقعاً يحاكي ما جاء في العهد القديم، إلا أنهم فشلوا في أن يجدوا أثراً أو حجراً يدل على وجود هذه المملكة التي رسمها لهم الكتاب العبري.
أما مُلك سليمان الذي حكى عنه القرآن في قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (ص: 35) لم يكن بمفهوم الدولة، وإنما هي مملكة إلهية منحها الله سليمان ليست على غرار الممالك المعروفة، فضلاً عن أن تكون متوافقة مع ملامح المملكة الداودية السليمانية الوارد ذكرها في التوراة(8).
يقول العلَّامة توماس طُمسن: «جرى تقديم القرن العاشر ق.م بوصفه العصر الذهبي لـ«إسرائيل»، وعاصمتها في أورشليم، كانت تلك الحقبة مرتبطة بالمملكة المتحدة، التي تضم السلطة السياسية لشاول، وداود، وسليمان، وتسيطر على الجسر البري الضخم، من النيل إلى الفرات، إضافة إلى مفهومها عن الهيكل الذي بناه سليمان بوصفه مركزاً لعبادة يهوه، تلك الصور لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخي الحقيقي، إننا نعرفها فقط كقصة، ولا يتوافر دليل على وجود مملكة متحدة، ولا دليل على وجود عاصمة في أورشليم، أو وجود أي قوة سياسية مُوحَّدة متماسكة، هيمنت على فلسطين الغربية، ناهيك عن إمبراطورية، بالحجم الذي تصفه الحكايات الأسطورية(9).
لقد نفى طُمسن أن تكون «أوروشليم» عاصمة للمَملكة الموحَّدة، كما نفى وجود داود بهذا المفهوم الوارد في الكتاب المقدس، حيث لم يتمكَّن الأثريّون، من العثور على دليل يشيُ صراحة، أو كناية، إلى مملكة داود في فلسطين رغم وجود 300 موقع تقوم فيها البعثات الأثرية بأعمال الحفر هناك؛ مما يعني أن المملكة الداودية الكبرى ليست أكثر من اختراع توراتي، تنفيه كل الوقائع الأركيولوجية، والتاريخية، مما يثبت أنها مملكة على الورق.
_____________________________
(1) الشخصية اليهودية، صلاح الخالدي، بتصرف.
(2) تفسير الكتاب المقدس، تادرس يعقوب.
(3) موسوعة الدرر السنية، بتصرف.
(4) مقال «كيف كذب علم الآثار مملكة داود القديمة»، أحمد الدبش، باختصار.
(5) المرجع السابق، بتصرف.
(6) المرجع السابق، بتصرف.
(7) المرجع السابق، بتصرف.
(8) محاضرة «فقه الصراع حول القدس»، محمد عمارة.
(9) كتاب «الماضي الخرافي»، توماس طمسن، ترجمة عدنان حسن.