أجتهد شخصياً في الاستماع إلى أسئلة أطفالي وأسئلة الأطفال عموماً، وأظهر اهتمامي بهم وبأسئلتهم، وأستثمر فيها لإجراء حوار تفاعلي معهم يتناسب مع سنهم ومعارفهم، وأعتبر أن هذه الأسئلة وأمثالها فرصة لتشكيل عقلية الطفل وبناء ثقافته وتكوين هويته، فضلاً عن تطوير لغته وتقوية شخصيته.
إن سؤال الطفل حالة طبيعية تدل على صحة الطفل النفسية والعقلية، يُعبر الطفل من خلالها عن مخاوفه ومكنوناته، وعن أفكاره ومعلوماته، وعن حاجته للمعرفة وحبه للاستكشاف، ويساعده الجواب عليها على فهم العالم من حوله، وعلى تعلم كيفية حل المشكلات وتطوير مهاراته الذهنية، وقد قيل لسيدنا عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: كيف أصبت هذا العلم؟ فقال: «بلسان سؤول وقلب عقول».
ولكن غالباً ما تعتبر أسئلة الأطفال محيرة أو محرجة للبالغين، ومن أكبر الأخطاء التربوية التي يمارسها بعض الآباء والمربين أن ينهر طفله عن السؤال، أو أن يهمله، أو أن يجيبه بإجابات خاطئة بعيدة عن الحقيقة، وذلك أن أسئلة الأطفال وإجاباتها هي مفاهيمهم التي تكبر معهم، وهي التي ستشكل وعيهم ومعتقداتهم، وعنها ستنشأ سلوكياتهم وتصرفاتهم، والأطفال أذكياء بفطرتهم وعدم إشباع نهمهم في الجواب قد يؤدي إلى نزع ثقتهم بوالديهم أو إلى خمولهم وانطوائهم وإضعاف شخصياتهم، وبالتأكيد سيلجأ الطفل إلى البحث عن إجابات أسئلته خارج إطار الأسرة، وهذا يعتريه ما يعتريه من أخطار.
أعلم أن الإجابة عن أسئلة الأطفال ليست عملية سهلة، وأنها تحتاج إلى قدر كبير من المعرفة والحكمة، ولذلك حاول علماء التربية واختصاصيو الطفولة دراسة أسباب هذه الأسئلة وكيفية الرد عليها بطريقة سليمة مناسبة، وتقديم بعض المهارات التي تسهل على الوالدين والمربين كيفية التعامل معها.
ولو أردنا أن نبحث عن تلك الأسئلة الطفولية التي يتحرج منها الكبار ويتهربون من استحقاق الجواب عليها لوجدنا أنها تنحصر في نوعين من الأسئلة، نوع يتعلق بالغيبيات، ونوع يتعلق بتكاثر الإنسان وطريقة إنجابه.
يسأل الطفل في النوع الأول فيقول مثلاً: من أين جئت؟ ما نهاية الحياة؟ من أين جاء الخالق؟ لماذا خلقنا؟ لماذا يخلق الله مرضى أو ذوي احتياجات خاصة؟ ويسأل في النوع الثاني فيقول مثلاً: من أين يأتي الأطفال؟ ما معنى الزواج؟ لماذا تختلف أجسام الجنسين؟ لم لا يحمل الذكر كما تحمل الأنثى؟ وأمثال ذلك من تلك الأسئلة المحرجة أو الصعبة التي يحار الوالدان والمربون فيها وفي كيفية تقريبها إلى أذهان أطفالهم دون كذب أو شطط.
ولكن تجاهل أسئلة الأطفال لا يحل المشكلة، بل يسبب غالباً مشكلات في النمو المعرفي والسلوك الاجتماعي، لأنه يشعر الطفل بتأنيب الضمير، أو يشعره بعدم أهميته وأهمية تساؤلاته مما يؤثر على تقديره لذاته، وقد يجعله يكبت مخاوفه وشعوره بالقلق، وبالتالي سيتوقف عن طرح الأسئلة ليبحث عنها في مصادر أخرى مما قد يعرضه لمعلومات مشوهة أو خاطئة، أو يوقعه ضحية لبعض الشبكات الإجرامية.
من أهم النصائح المتعلقة بطريقة الجواب عن أسئلة الأطفال هو ألا تنهر الطفل عن السؤال، ولا تسخر منه ولا تهمله، ولا تسمح للآخرين بالاستهزاء به، بل أظهر اهتمامك بالسؤال وتفاعل معه، واكتشف الدافع الذي يقف خلفه، هل هو مجرد رغبة في المعرفة والاستكشاف، أم هي حالة من القلق والخوف الكامن في نفس الطفل نفسه، وحاول أن تقدم إجابة منطقية وصادقة مناسبة لمدركات الطفل ومعارفه وذوقه، ويمكن أن تشجع الطفل على الحصول على المعلومة المناسبة من مصادرها الآمنة التي تحددها له، أو تتصل له بشخص مختص تثق به ليقدم له ولك الجواب الأنسب.
إن التعامل السليم مع أسئلة الأطفال يساعد الطفل على بناء هويته الواعية، يساعده في أن يتعرف على نفسه وعلى هويته الإنسانية والدينية والثقافية، وخاصة فيما يتعلق بالأسئلة الوجودية، مثل: من أنا؟ من خلقني؟ لماذا خلقت؟ ما المنهج الذي أسير عليه في حياتي؟ وماذا بعد الموت؟ كما يساعده على تفهم عالمه الداخلي وما يعتريه من مشاعر وما يعالجه من آمال وآلام وطموحات، وكيفية اتساقه وانسجامه مع عالمه الخارجي في محيط أسرته القريبة.
لا أبالغ إن قلت: إن تربية الطفل تبدأ من سؤاله، ومن كيفية تعاملنا مع هذا السؤال، ومنه نستطيع بناء المفاهيم الإسلامية الصحيحة الأساسية في نفس الطفل، التي تأخذ بيده نحو الإيمان وما يترتب عليه من التزامات بحب ورضا، ويوجهه نحو الطبيعة التي خلقها الله تعالى ليستكشفها مرة أخرى فتزيده إيماناً وتقوى.
واليوم، وفي عالم تكسرت فيه الحواجز الجغرافية والثقافية وصار أشبه بقرية عالمية صغيرة، بات تحدي السؤال وتحدي بناء الهوية عند الأطفال أكثر إلحاحاً وأشد خطورة، ففي عالم يموج بملايين الأشخاص ومختلف الثقافات والهويات، يندفع الطفل للسؤال ليبحث عن ذاته، ليبحث عن «الأنا» التي تميزه وتميز مجتمعه وأمته، ليعْرِفَ نفسه أولاً، وليُعَرِّف بها الآخرين، فتكون هويته محل انتماء وفخر بالنسبة له، فخر يرفعه عن أوحال الثقافات الأرضية الأخرى، ويزيده ثقة بنفسه وبمستقبله، وهذا ما يجب أن نعين أطفالنا عليه، من أجلهم ومن أجلنا.