يسلط كتاب «الإسلام في الألفية الثالثة.. ديانة في صعود»، لمؤلفه الدبلوماسي الألماني الراحل مراد هوفمان، الضوء على المأزق الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي الذي تحياه البشرية، وكيف يمكن أن يشكل الإسلام العلاج والشفاء الذي ينقذ الغرب من نفسه.
يتساءل هوفمان في مقدمة كتابه الصادر عام 2001م: ما النتائج المرتقبة في حال نجاح العالم الإسلامي في أن ينهض من جديد؟ وهل يمكن أن يصبح هذا الدين بالفعل ديناً يسود العالم؟ وهل سيصبح الغرب قادراً على الاعتراف بالإسلام كدواء يصلح لشفائه، دواء يساعد الغرب على تخطي أزمته وإنقاذ حضارته؟
ربما كان عمل هوفمان كدبلوماسي في الغرب والشرق، وتنقله بين عدد من العواصم العربية، وعمله كمحاضر في ندوات ومؤتمرات عدة، قاطرة تواصل ثقافي، جعلت منه جسراً للتفاهم بين الجانبين، ومكنته من طرح تلك التساؤلات، مشيراً إلى أن اللغة الإنجليزية يُنشر بها عن الإسلام أكثر مما ينشر بالعربية.
يقوم الكاتب المولود عام 1931م لأسرة كاثوليكية، قبل أن يعتنق الإسلام، بخلق شخصيتين من بنات أفكاره لطالبين مسلمين يعيشان في الغرب، ويوجه لهما الأسئلة عن هذا الغرب ليعرف انطباعاتهما، وفي المقابل، يبتكر شخصيتين لطالبين أوروبيين، اعتنقا الإسلام، فيسألهما عن انطباعاتهما عن العالم الإسلامي.
خلال الكتاب وصفحاته الـ259، يسلط د. هوفمان الضوء على معاناة الحضارة الغربية من أفول، وتحول الإلحاد إلى البديل الديني، واستبعاد كل ما هو ديني من المجال العام، وتسلط نزعة مادية باتجاه تأليه الإنسان، مستعرضاً بعضاً من جوانب الانهيار الأخلاقي من عنف واغتصاب وتحرش وإباحية وشذوذ جنسي بات أسلوباً للحياة، مقابل تصوير الزواج باعتباره خطراً داهماً؛ ما أدى إلى تفكك الأسرة، ليجد الإنسان نفسه وحيداً أمام حاسوبه الشخصي.
يعلق بالقول: هذه هي ملاحظات شخصية المسلم، الذي يؤمن عن اقتناع، ويمارس الإسلام عن يقين، بما يؤدي إلى إصدار حكم قاطع على الغرب ورفضه، بل هو يرفض أن يقتدي بهذه الحضارة التي تعاني أزمة وجود، مشيراً إلى أن الانتقاء هو السبيل، فهناك في الغرب ما يدعو إلى الإعجاب والاقتداء به، وهناك ما يتنافى مع الطبيعة الإنسانية ويجرد الإنسان من إنسانيته.
بينما يبدي المسلم الغربي، تلك الشخصية التي خلقها هوفمان، إعجابه بمظاهر التماسك الأسري عند المسلمين، ودور العائلة الكبيرة، وتكافل المسلمين، وتوقير الكبير، وإكرام الضيف، والإخاء الذي يجمع أبناء هذا الدين، قائلاً: إنه عندما يرى الإنسان المسيحي أو أتباع أي ديانة أخرى هذه الطيبة والتسامح الذي يتعامل به المسلمون في المناطق الإسلامية، ينتابه إحساس غامض بالدفء الإنساني، هذا الشعور يعد أحد الأسباب التي تدفع بالكثير من الفلبينيين الكاثوليك ممن يعملون بدول الخليج العربي إلى اعتناق الإسلام.
بسلاسة وبلاغة تحسب له، ينتقل الخبير النووي السابق في حلف الأطلسي (الناتو)، إلى انطباعات شخصية الغربي المعتنق للإسلام، لكنه على النقيض من زميله، يرصد سلبيات ونقائص عالم الشرق، مستشهداً بمحمد أسد الذي حمد الله على أنه اعتنق الإسلام، قبل أن يتعرف على العالم الإسلامي، وكذلك مقولة الشيح محمد الغزالي الشهيرة: إن بالغرب مسلمين قلائل والكثير من الإسلام، وإنه رأى العكس من أجزاء العالم الإسلامي، أي مسلمين كثر، والقليل من الإسلام.
ويجول السفير الألماني الأسبق في الجزائر والمغرب، بين صفحات التاريخ الإسلامي، وكيف تنامى انتشار الإسلام، ولماذا يتزايد اعتناق هذا الدين، وكيف كان الإسلام إصلاحاً للمسيحية؛ أي محاولة لإعادتها إلى جذورها الحنيفية الأولى، بينما حاول الغرب نشر أسطورة وأكذوبة توسع الإسلام بالنار والسيف، معتبراً ذلك تفسيراً دائماً لحالة الخوف من هذا الدين، الذي يظهر إلى يومنا هذا، عندما ينسب العنف إلى الإسلام.
جرس إنذار
يدق الرجل الذي عاش 50 عاماً من عمره كاثوليكياً، و39 عاماً مسلماً، جرس الإنذار، بالقول: إن الحروب الصليبية لم تنته حتى يومنا هذا، حتى وإن لم يظهر الفرسان الصليبيون بدروعهم الحربية، بل في بدلة رجل الأعمال، لافتاً إلى أن الغرب ينطلق من فكرتين؛ أولاهما: تفوق العالم الغربي بنموذجه الحتمي، المتقدم، وثانيها: حق العالم الغربي، بل واجبه، أن يرتبط باقي العالم به ويتبعه.
ويؤكد المفكر الألماني المسلم، الذي رحل عن دنيانا عام 2020م، عن عمر ناهز 89 عاماً، على أن «فوبيا» الإسلام أصبحت مكوناً أساسياً في كل وسائل الإعلام، كما تسود في جميع مجالات المجتمع، وبالتالي الإبقاء على كل ما هو سلبي في الذاكرة الجمعية تجاه الإسلام.
ويستعرض هوفمان موقف الإسلام من حقوق الإنسان، ومن حقوق المرأة، ومن الديمقراطية، مشدداً على أن هناك قوى في الغرب لها مصالحها الخاصة في استمرار عدم توافق الإسلام مع حقوق الإنسان والديمقراطية، وأن انتهاك حقوق الإنسان الذي تمارسه الدول الإسلامية، أمر لا يقره الإسلام، وأن حروب التطهير العرقي واستخدام الأسلحة الكيميائية والنووية وغير ذلك من فظائع كانت من صنيعة الغرب.
يتابع الرجل الذي اعتنق الإسلام في سبتمبر 1980م، مثيراً وقتها عاصفة من الجدل بسبب مكانته الدبلوماسية الرفيعة، في فصل عنونه «لماذا محمد؟»، متسائلاً: ألا تستدعي مجرد أصول المعاملة المهذبة واللياقة عدم تجاهل رسول يؤمن به ما يزيد على مليار مسلم ويحترمونه؟
يضيف: تبدو المقولة القادمة غير متوقعة ولكنها بلا شك منطقية، ألا وهي: إذا كان مقدراً للإسلام أن يحقق في المستقبل المرئي نجاحاً في الغرب، فإنه سيحققه في الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك أسباب كثيرة تؤيد هذا الرأي، بينما لا ينفيه إلا القليل جداً من المعطيات، مشيراً إلى أن التعدد والتنوع الديني الهائل هناك يتيح ذلك.
يواصل: أما ما يشغل بال الناس في الغرب اليوم فهو ما سيحدث لهم وما سيصيب أسلوب حياتهم إذا ما أصبح المسلمون في الغرب أغلبية؟ مؤكداً أن في الإسلام فرصة أوروبا والولايات المتحدة لحل أزماتهم، وأن الإسلام سيقوم بدور في الألفية الثالثة، فلماذا لا يترك له المجال ليقوم بتأدية دور إيجابي؟
عمل هوفمان في وزارة الخارجية الألمانية من عام 1961 إلى 1994م، وكان متخصصاً في القضايا المتعلقة بالدفاع النووي.
وواصل عمله مديراً للمعلومات في منظمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل في الفترة من عام 1983 إلى 1987م، وسفيراً لبلاده لدى الجزائر من عام 1987 إلى 1990م، وسفيراً في المغرب من عام 1990 إلى 1994م.
صدر للراحل، رحمه الله، إلى جانب الكتاب الذي تجولنا بين صفحاته، كتب قيمة في الفكر الإسلامي الحديث، منها «يوميات ألماني مسلم»، و«الإسلام كبديل»، و«رحلة إلى مكة».