إشكالية كبيرة تمر بها المرأة المسلمة اليوم بين واجباتها ومسؤولياتها المركبة الأساسية، ما أرادوها لها من التخلي عن تلك المسؤوليات في نهضة الأمة والحفاظ عليها واستعادة ريادتها؛ وذلك بصنع الرجال وإعدادهم للقيام بدورهم،
وفي وقت يعيد العالم فيه ترتيب أولوياته وتصحيح مساراته بحسب الفكرة الإنسانية التي وضعها الله عز وجل في نفوس خلقه بصرف النظر عن أي عقيدة يعتقدونها، فنسمع نداءات بدأت خافتة ثم تصاعدت لنسمع جورج بوش الرئيس الأمريكي الأسبق يفكر في فصل البنات عن البنين في المدارس المختلطة، وأصوات أخرى معظمها لنساء كن يطالبن بحقوق المرأة في العمل مساواة بالرجل، فإذا بهن يطالبن بعودتها للبيت والتفرغ للزوج وتربية الأبناء إنصافا لها،
نجد على صعيد آخر في بلادنا المسلمة مما زالت تخالف الفطرة والقوانين الربانية وتعاند الفطرة تحت دعاوى حقوق المرأة فتنتزعها من مملكتها، لتهوي البيوت، وتهوي الأمة من خلفها.
ولسوء التقدير نجد أن بعض النساء الملتزمات يسقطن في ذلك المستنقع الآسن، فتنشغل بأمور هي أقل بكثير من مهامها التي خلقها الله عز وجل من أجلها، لنجد تقصيراً في حق زوجها وأبنائها، وتلك الرسالة المقتضبة إليها كي تتعلم وتتأسى بأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها لتعرف كيف يجب أن تكون المؤمنة زوجة الداعية.
امرأة مباركة وخير نساء العالمين
سيدة نساء العالمين في زمانها، أم القاسم ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، القرشية الأسدية، أم أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من آمن به وصدقه قبل كل أحد وثبتت جأشه، ومضت به إلى ابن عمها ورقة(1).
ومناقبها جمة، وهي ممن كمل من النساء، كانت عاقلة جليلة دينة مصونة كريمة، من أهل الجنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليها، ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين، ويبالغ في تعظيمها، بحيث إن عائشة كانت تقول: ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة، من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها، ومن كرامتها عليه صلى الله عليه وسلم أنه لم يتزوج امرأة قبلها، وجاءه منها عدة أولاد، ولم يتزوج عليها قط، ولا تسرى إلى أن قضت نحبها، فوجد لفقدها، فإنها كانت نعم القرين، وكانت تنفق عليه من مالها، ويتجر هو صلى الله عليه وسلم لها.
وقد أمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
قال الواقدي: حدثنا ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس وابن أبي الزناد، عن هشام، وروى عن جبير بن مطعم: أن عم خديجة، عمرو بن أسد، زوجها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن أباها مات قبل الفجار(2)، قال الزبير بن بكار: كانت خديجة تدعى في الجاهلية الطاهرة، وأمها هي فاطمة بنت زائدة العامرية.
وعن عبدالله البهي، قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها، فذكرها يوماً، فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن، قالت: فرأيته غضب غضباً، أسقطت في خلدي وقلت في نفسي: اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما لقيت، قال: «كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد وحرمتموه مني»، قالت: فغدا وراح عليّ بها شهراً.
وعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ»، وقد ورد الحديث بلفظ: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلّا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد» (رواه البخاري، ومسلم)(3).
الزوجة الحكيمة
لم تكن رضي الله عنها في حاجة للرجال ولا للمال، ولا للشرف، ولا للنسب ولا للحماية، لأنها كانت في غني عن كل ذلك وتملك من كله أعلاه، وإنما بفطرة المرأة الطاهرة أدركت أنه لا استقامة لحياة المرأة بدون رجل قيم عليها، رجل عدل، يحمل من الصفات العلا أكملها، ومن الأخلاق الحميدة أعلاها، ومن الرجولة والمروءة أعمقها وأرفعها، حتى ولو كان يصغرها بخمسة عشر عاماً.
علمت منذ الوهلة الأولى التي التقت فيها بمحمد عليه الصلاة والسلام أنه رجل غير عادي، وأن له شأناً مختلفاً، ليست تدري ما هو، لكن تلك الخصال ليست معهودة مجتمعة في إنسان واحد، فأدركت أن عليها واجباً تجاهه، واجب المؤازرة والحب والرحمة والود وكفايته مؤنة التفكير في سفاسف الأمور.
فحملت عنه كل هذا خاصة في تلك الفترة التي كان يتعبد لربه في غار حراء من كل عام، وحين أتاه الوحي لم يعد لعمه الذي رباه وآثره على أبنائه، وليس لصديقه الصديق، ليس إلا لزوجته التي وجد فيها كل هذا، وجد الحب والحكمة والعقل والدفء والأمان، وهكذا يجب أن تكون الزوجة الكريمة، زوجة صاحب المسؤولية العظيمة، وزوجة الداعية، وزوجة المجاهد، هي في ظهره تؤازره وتصدقه وتثني عليه وتضمه وتكفيه بما تملك.
عاد قائلاً: «زملوني، زملوني»، فتهدئ من روعه، وتطمئنه: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
يقول لها: «يا خديجة، لقد خشيت على نفسي»، فتجيبه بكلمات هي في سجل التاريخ نور، الزوجة الواثقة المحبة، ثم تصطحبه لابن عمها ورقة بن نوفل، وكان من أهل الكتاب، ليبشره بالنبوة، ولتكون خديجة أول من أسلم على الإطلاق.
الزوجة المحبة صاحبة الرسالة
تبدلت حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد النبوة عما قبلها، فقد انشغل بالدعوة والعبادة جل وقته، وصار البيت ملجأ للمستضعفين من المؤمنين الجدد، وملاذاً لمن يلتمس الأمان عند سيد الخلق وزوجته الكريمة لتحمل عنه عبئاً كبيراً كثيراً ما يشغل أصحاب المهام الكبرى وهو مسؤولية البيت والأولاد واحتياجات الزوجة ومطالبها التي لا تنقضي، غير أنها رضي الله عنها لم تتزوج رجلاً عادياً، وكانت قدر المسؤولية الواقعة على عاتقها.
فكان بيتها يزخر بالأبناء غير زيد بن حارثة الذي تبناه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابنه حتى ألغي التبني، وكان ميسرة، وعليّ بن أبي طالب، في الوقت الذي يحتاج فيه النبي صلى الله عليه وسلم السكينة والهدوء والود في بيته، فكانت رغم زحمة البيت وكثرة الانشغالات نِعْم الزوجة المحبة التي تحتضن زوجها وتهيئ له الحياة ليكون على قدر مسؤوليته الجسيمة فيها.
واسته بالمال والحب والتصديق والسكينة، فكان جزاؤها من جنس عملها لتكون جديرة بأن يُقرئها ربها السلام على لسان جبريل عليه السلام، فعن أبي هريرة أنه قال: أتى جبريلٌ النبيَّ فقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلاَمَ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ»، وذلك بعد أن تركت بيتها، وتركت الهناءة والراحة والمال وانزوت عنه في شعب أبي طالب وهي الكريمة بنت الأكرمين، وكان حقاً لها حب النبي صلى الله عليه وسلم ليعلنه على الملأ قائلاً: «إني رزقت حبها».
رحم الله أمنا خديجة رضي الله عنها، تلك التي ضحت بما تملك لحبيبها ونبيها، آزرته في كل موقف، أطاعته ولم ترفض له أمراً، شاركته مهماته الدعوية وكفته مهماته التربوية في بيته.
_____________________
(1) سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ج 2، ص 110.
(2) المرجع السابق، ص 111.
(3) الكشف والبيان عن تفسير القرآن للشعبي (27/ 71).