يتعجب الكثيرون كيف لأهل غزة هذا الثبات الأسطوري في وقت فقد فيه العدو عقله فيحارب بغشم وانعدام أخلاق بقتل المدنيين العزل والأطفال والنساء بغير رحمة وبصورة غير مسبوقة في التاريخ الحديث؟!
ويظهر التباين الكبير في أخلاق الجهاد بين أهل غزة على سبيل المثال وغيرهم من المسلمين، فنجد بين الملاحم والمصاب الأليم والقتل المجنون آيات في البطولة والمجد والشرف والثبات العجيب، يقابله على الجانب الآخر في أقطار المسلمين جزع وبكاء وتردد وتساؤلات حول جدوى الجهاد، ولماذا قبول الفقد للأعزة من الأهل بذلك الصمود؟!
وذلك يرجع للتربية في أرض الرباط على حتمية الجهاد وحب الشهادة وامتداد الحياة التي لا تنتهي بالموت، وإنما تنتهي بالجنة أو النار.
وكي نعي أخلاق هؤلاء وقت المحنة وسبب صمودهم، يجب علينا معرفة أخلاق المؤمنين وما يجب أن يكونوا عليه وقت الجهاد.
أولاً: الثقة بنصر الله تعالى:
المحنة مناط التكليف، ففي وقت السلم الجميع شجعان ثابتون أبطال، والله عز وجل يقول: (الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت)، فالابتلاء واقع بكل مسلم ليتبين إيمانه وثباته على الأمر، والمعين الوحيد على الثبات والصبر هو الله عز وجل.
والأصل في الإسلام العلو والسيادة والتمكين، فلا نستيئس من ضعف المسلمين حيناً من الدهر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يعلو ولا يعلى» (صحيح الجامع، حديث حسن).
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم باستمرار زيادة الإسلام: «ولا يزال الإسلام يزيد وينقص الشرك وأهله، حتى تسير المرأتان لا تخشيان إلا جوراً، والذي نفسي بيده لا تذهب الأيام والليالي، حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم» (صحيح الجامع، صحيح).
وقال الله تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص)، وقال سبحانه: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران: 160).
ثانياً: نصرة الله لصيقة بمن ينصره ولا بد من التضحيات:
أخذ الله عز وجل على نفسه سبحانه نصرة من ينصر دينه بنفسه أو بوقته أو بماله، فما بالنا بمن يضحي بهذا كله في سبيل الله عز وجل، يقول تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).
وقال سبحانه: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47)؛ أي: أوجبنا ذلك على أنفسنا وجعلناه من جملة الحقوق المتعينة ووعدناهم به فلا بد من وقوعه.
وعلى غرار تلك الآيات ذكر الله عز وجل أحقية المؤمنين المجاهدين فيه بالنصر المبين، فقال سبحانه: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51)، وقال سبحانه: (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) (آل عمران: 13). وقال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء).
وقال في حتمية الزلزلة ليستجير الناس بربهم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214)، وقال سبحانه في ضرورة الصبر عند الملمات: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ {33} وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام).
وقال سبحانه في حتمية النصر: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ {14} وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة)، وقال في تبعات ترك الجهاد والركون للمذلة والمهانة والدعة وقبول الاستضعاف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ {38} إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {39} إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {40} انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) (التوبة).
ثالثاً: تبشير النبي بالنصر للمؤمنين:
وردت بشائر كثيرة في سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجدد الأمل وتثبت اليقين، منها وعد الله تعالى بأن يبلغ ملك الأمة المشارق والمغارب كما في الحديث: عَنْ ثوبان قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ زَوى -أي قرّب وصغر- لي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأحمر والأبيض» (رواه مسلم، 2889).
وعن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجلٌ فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: «يا عدي هل رأيت الحيرة؟»، قلت: لم أرها وقد أُنْبِئْتُ عنها، قال: «فإن طالت بك حياةٌ لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله»، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعار طَيء الذين قد سعروا البلاد؟! «ولئن طالت بك حياةٌ لتفتحن كنوز كسرى»، قلت: كسرى بن هرمز؟! قال: «كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياةٌ لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولن له: ألم أبعث إليك رسولاً فيُبلغك؟ فيقول بلى، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم».
قال عديٌّ: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اتقوا النار ولو بشقة تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة»، قال عديٌّ: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياةٌ لترون ما قال النبيُّ أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يخرج ملء كفِّه (رواه البخاري).
وعَنْ ثوبان رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» (رواه مسلم).
وتاريخ الأمة الإسلامية تاريخ ناصع ومزين بالبطولات إلا في فترات استثنائية منها، وتحدث حين يتخلى المسلمون عن سبب رفعة شأنهم وهو دينهم، ولكنها سرعان ما تعود وتنتبه وتحمل مشعل النور والحضارة لرتقي بنفسها وبالعالم من حولها، فلا مجال لليأس والقنوط، وما علينا إلا ننتفض ونعود لحضن شريعة الله، فما تخلفنا وضعفنا إلا لتخلفنا عنها.