تتأثر مجتمعاتنا العربية بصورة الأب التقليدي، الذي يظهر كحازم، صامت، لا يبتسم، ولا يسأل عن اهتمامات أبنائه، هذه الصورة ربما كانت نتيجة للظروف الحياتية القاسية والمجتمعات المغلقة التي عاش فيها آباؤنا، حيث لم يكن هناك مجال كبير للحوار والتفاعل.
لكن في القرن الحادي والعشرين، حيث المجتمعات باتت منفتحة وتتعرض للأفكار الهدامة في كل لحظة، أصبح من الضروري أن تتغير هذه الصورة، إن الحوار مع الأبناء، بما لا يفرض قيودًا، والاستماع إليهم، بات أمرًا أساسيًا وليس من كماليات التربية كما كان يُعتقد في الماضي.
الاستماع.. من الأساسيات التربوية
الاستماع إلى الأبناء، سواء كانوا أطفالًا أو شبابًا، ليس مجرد واجب أو عمل روتيني يقوم به الوالدان، إنه لبنة أساسية في بناء علاقة قوية وصحية معهم، يجب أن نميز بين الاستماع والإنصات؛ فالاستماع هو الحد الأدنى، أما الإنصات فهو أعلى درجات التفاعل مع الأبناء، عندما يشعر الأبناء بأن آباءهم ينصتون إليهم بجدية، فإنهم يجدون في ذلك نوعًا من التقدير والاحترام؛ مما يعزز ثقتهم بأنفسهم وبآبائهم.
تجربة تعليمية.. قوة الإنصات
أتذكر موقفًا حدث لي مع مجموعة من الشباب الذين لا تزيد أعمارهم على 14 عامًا، كان أحدهم كثير الكلام، ولا يدع مجالًا لغيره بالتحدث، في يوم من الأيام، ضقت ذرعًا وحاولت إسكاته، إلا أنه قال لي جملة علّمتني درسًا مهمًا في الحياة: «أنا في المدرسة يسكتوني، وفي البيت يسكتوني، فأخذ راحتي هني معاكم»، من هذا الموقف، تعلمت أن المشكلة ليست في هذا الشاب، بل في النظام الذي يحاصره في كل مكان، أدركت أن علينا أن نكون الملاذ الآمن لأبنائنا، حيث يجدون من يستمع إليهم ويتيح لهم فرصة التعبير عن أنفسهم.
كيف نحاور الأبناء؟ خطوات عملية
– التعرف على اهتمامات الأبناء: حاول أن تعرف ما الذي يشغل أذهانهم، وابدأ بالسؤال عن اهتماماتهم، لكن احذر أن تُظهر لهم أنك تعرف كل شيء، فالحوار ليس للتعليم أو التعقيب، بل هو جسر للتواصل والحديث، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة عندما سأل الطفل الصغير: «يا عمير ما فعل النغير؟».
– السؤال عن الاهتمامات: إذا لم تكن على دراية باهتماماتهم، لا تتردد في سؤالهم عنها، تجنب الانتقاد، حتى لو بدت لك اهتماماتهم تافهة، لأن الانتقاد قد يغلق الباب الذي تحاول فتحه.
– المشاركة في الأمور المنزلية: يقول الله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران: 159)، حاول إشراكهم في أمور المنزل والقرارات التي تهمهم، فهذا يعزز لديهم الانتماء للبيت ويقوي شخصيتهم، وربما تأخذ رأيهم في بعض قراراتك الشخصية، مثل شراء هاتف محمول.
– بناء الثقة: إذا نجحت في الخطوات السابقة، ستلاحظ بداية علاقة من الثقة بينك وبين أبنائك، هذه الثقة هي أساس العلاقة المستقبلية للنصح والتوجيه، إذا شعرت أن ابنك لديه مشكلة، استخدم سياسة الباب المفتوح، وقل له: «أراك منزعجًا، هل يمكنني مساعدتك؟»، وإن لم يخبرك، فقل: «متى ما أردت الحديث، أنا موجود».
– ترك مساحة للأخطاء: اترك لهم مجالًا ليخطئوا ويتعلموا، لا تحزن إذا لم يأخذوا بمشورتك، فإن نجحوا بعد التجربة سيثقون بأنفسهم أكثر، وإذا أخطؤوا، سيعلمون أنك كنت على حق وسيقدرون أنك تركت لهم مساحة لاتخاذ قراراتهم.
– الدعاء للأبناء: أخيرًا، لا تنس الدعاء لأبنائك بأن يملِكَكَ الله قلوبهم، وأن يملكهم قلبك. فليس هناك خير في أب لا يحبه أبناؤه، ولا في أبناء لا يشتاق لهم آباؤهم.
الحوار مع الأبناء هو المفتاح لقلوبهم قبل عقولهم، إنه الطريق لبناء علاقة قوية تقوم على الثقة والاحترام المتبادل، في عالمنا اليوم، حيث تتقاذف الأفكار والأيديولوجيات من كل جانب، لا بد للآباء من أن يكونوا السند والمرشد لأبنائهم، وأن يفتحوا لهم باب الحوار والتواصل الدائم، إن الاستماع إليهم والإنصات لمشكلاتهم واهتماماتهم هو السبيل لبناء جيل قوي قادر على مواجهة تحديات العصر بثقة وعزيمة.