يتطلب فهم مسألة الغزو الثقافي ودراسته تسليط الضوء على أدوات ذلك الغزو المُختلفة التي يتم توظيفها لتجريد الأمم من أسلحتها المقاومِة، وحصارها فكرياً بحيث تبدو أداة طيعة للاحتلال المادي والمعنوي، ومن ثم استغلالها على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية لترسيخ قواعد النظام الدولي القائم على هيمنة عدد من الدول القوية والغنية على سائر الدول عبر تكريس الجهل والفقر والاستبداد بشكل دائم ومستمر ونشره في سائر أنحاء العالم للحيلولة دون أي احتمالات للترقي أو كسر تلك الهيمنة.
ورغم أن الاحتلال العسكري الغربي الذي ساد فترة من الزمان قد تأسس ثقافياً على نظرية الاستعلاء ومبدأ تفوق الرجل الأبيض الذي جاء برسالة مقدسة لاستعمار العالم ونشر ثقافته المتحضرة الحديثة، فإن ذلك الغزو الثقافي قد قوبل بجبهة منيعة من حركات التحرر والمقاومة المسلحة رفضاً لتلك الأفكار الزائفة التي ادعت التنوير من فوق فوهات المدافع، ونجح العالم الذي تم تصنيفه بأنه «ثالث» في التفطن لذلك الغزو والتصدي له بقوة ووعي كبيرين.
لكن الأدوات الغربية في تكريس الغزو الثقافي قد تبدلت بفعل تطور القواعد الحاكمة للنظام الدولي، فباتت «القوة الناعمة» أكثر تفضيلاً من القوة العسكرية، بحيث أصبح الجمع بينهما ضرورياً لإنجاح الغزو الثقافي بأقل قدر من المواجهات العنيفة، عبر العمل على التلاعب بعقول الناشئة في الدول المستهدفة ليقوموا بأنفسهم بدور المحتل بالنيابة عنه، ومن ثم ترسيخ الاستغلال والتبعية من دون الأدوات التقليدية أو على أقل تقدير بالجمع بينهما، فيما يطلق عليه سياسة العصا والجزرة.
نزع القداسة
وبينما مثل الدين سلاحاً ثقافياً وحضارياً مؤرقاً للمحتل الغربي على مر العصور، ومكمن خطورة لتعبئة الجهود وتوعية الأجيال الجديدة بذواتها في مواجهة الآخر، خاصة في ظل توظيف الغرب على مدار عصور طويلة للدين في التعبئة ضد المسلمين كما تمثل في الحملات الصليبية على سبيل المثال، ثم الجهود التبشيرية التي صاحبت الحملات الاستعمارية، فإن تحفيز التمسك بالدين الإسلامي في مواجهة الآخر الغربي المسيحي قد تم تأجيجه بالأساس من جانب الغرب الذي تمسك برفع الشعارات الدينية في كافة مواجهاته العسكرية -الهجومية بالأساس- ضد العالم الإسلامي، وهو ما جعل الصراع بين الطرفين في جانب كبير منه دينياً وليس سياسياً.
وبعد عقود طويلة من الجهود الغربية لنشر العلمنة باعتبارها مبدأ أساسياً لأي تحديث في العالم العربي والإسلامي، وادعاءات بنجاح الغرب في التقدم والتطور نتيجة إقرار فصل الدين عن الدولة ونزع القداسة عن العالم بوضع شؤون البشر بأيديهم لا بأيدي ماورائية خارجة عن إرادتهم ومتحكمة فيهم بشكل غيبي، فقد جاءت حرب غزة لتكشف من جديد عن الوجه السافر للعقيدة الغربية المتجذرة والقائمة على المذهبية الدينية الخفية بين غرب مسيحي وشرق إسلامي.
ومن ثم فقد اتضح بجلاء بعد الانحياز الغربي الفاضح والفاسد -خاصة على مستوى الحكومات- للجانب «الإسرائيلي» المجرم ضد شعب غزة، بأن حملات العلمنة الغربية التي ما برحت تضغط على العالم الإسلامي لتهميش الدين ما هي إلا أداة عنصرية لمحو الإسلام بأساليب ملتوية تحت دعاوى تطوير المناهج تارة وتحديث النظم السياسية وتلبية احتياجات العصر تارة أخرى، بينما هي في حقيقتها تخفي رغبة ملحة في طمس الدور الإسلامي القائم على التوعية والتعبئة والتنشئة، رغبة في تسليم ذلك الدور إلى مؤسسات مُعلمنة تلقن الأجيال الجديدة الخطط الغربية في شكل مبادئ وقيم تتمسح بمسحات إنسانية وأخلاقية زائفة.
تدمير الهوية
ولما كانت الهوية تنطوي على مكونات ثقافية أخرى بخلاف الدين –وإن كان الدين أبرزها وأهمها– فقد تعدت العولمة مجال الدين إلى إطار ثقافي أوسع يبعث رسائل تتخذ طابعاً يقينياً قاطعاً، بأن الثقافة الغربية هي الثقافة الوحيدة التي يمكن من خلال اعتناقها بالكامل الوصول إلى التقدم والازدهار، عبر ترسيخ بديهيات لا يمكن التأكُد من صدقها أو التحقق من صحتها تتمثل في الآتي:
– الحداثة: في تصنيف الحضارات تاريخياً طبقاً للرؤية الغربية، تم إطلاق الحداثة والتنوير وعصر النهضة على تلك الفترة التي انتقل الغرب فيها من العصور المظلمة إلى العصر الراهن، وهي بديهية تعطي إيحاء بأن كل ما قبل الحضارة الغربية قديم وعفى عليه الزمن ورجعي ومتأخر؛ وهو ما يعني عدم إمكان الاعتماد على أي حضارة غير غربية للوصول إلى قيم التحديث والنهوض والتقدم.
– الإنسانية: يشيع في الادعاء الغربي بأن عصر النهضة الأوروبية قد رسخ مبدأ الإنسانية أو الهيومانية، في محاولة لربط كل ما أحرزته البشرية من تقدم في مجال حقوق الإنسان إلى الغرب الذي أطلق «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» مع غض الطرف عن الجهد التراكمي لسائر الحضارات غير الغربية ونسب كافة ما تحقق من إنجازات في هذا المجال للحضارة الغربية.
– المادية: أصبحت المادة جوهر النظام المعرفي الغربي الحداثي، فطبقاً للتقييم المادي والحسي للعالم فقط يمكن تحقيق التقدم والتطور، مع إغفال كافة المسائل المعنوية غير المادية كالعقل والدين والروح والموت والبعث والحساب والأخلاق، فأصبحت المادة واللذة وقيم السوق المادية كالربح والاستهلاك هي الأساس؛ مما أفرغ كثيراً من الحضارات من قيمتها الثقافية التي تستند بالأساس إلى تراثها الديني والثقافي والأخلاقي والشعبي.
السيولة
وبذلك صنعت المادية الغربية الخالية من القيمة والخالية من الأخلاق والروحانيات سيولة شاملة، والسيولة في رؤية زيجمونت باومان تعني غياب الغاية الأخلاقية العامة أمام الواقع القائم على الاستهلاك الدائم وإشباع الرغبات والشهوات دون الاستناد إلى أي قيم أو الرجوع إلى نظام أخلاقي خارجي أو مرجعي لتهذيب تلك الرغبات والشهوات، ورغم انحصار تلك السيولة أولاً في المجتمعات الغربية في مسائل السوق والاقتصاد فقط انتقلت بشكل كامل إلى مجالات السياسة والاجتماع، وعلى المستوى الفردي في إطار إدارة الفرد لعلاقاته الخاصة في الحب والزواج والتواصل الاجتماعي وأفرغ حياة الإنسان من أي مضمون أو هدف حقيقي.
ذلك التخريب الثقافي والديني والأخلاقي وإن كان قد طال العالم بأسره، فقد اشتدت وطأته على دول العالم الثالث بشكل أكبر، فعلى الرغم من مراجعات غربية ناقدة باستمرار لما أحدثته المادية الغربية وقيم ما بعد الحداثة في الغرب نفسه، فإن تلك القيم قد تم فرضها على العالم فرضاً بالقوة الغاشمة ولم تملك دولنا وأممنا من أمرها شيئاً في الاختيار أو المراجعة، بل جاءت مفروضة فتضاعف أثرها السلبي أضعافاً، وحتى حين يتم إدخال تعديلات عليها في الغرب لخدمة المجتمعات والحيلولة دون تدميرها وفسادها، فإن الغرب يعمد إلى استمرار تطبيق تلك النظريات على العالم الإسلامي في شكلها الأكثر وحشية وسوءاً إمعاناً في إفساد المجتمعات وضماناً لاستمرار فشلها وتدهورها الدائم.
وقد نجحت تلك الأدوات المهمشة للدين والمدمرة للأخلاق في خلق أجيال كغثاء السيل، مسوخ بشرية لا تمتلك أي أسس ثقافية أو حضارية تستند إليها ولا جذور معرفية ودينية تتشبث بها في مواجهة العالم، تبدو كأوعية غربية الشكل واللغة والملبس والمأكل لكنها مضمحلة على المستوى الفكري والثقافي، لا تمتلك أدنى قدر من الثقافة والتحليل والنقد والفهم، وهو ما يتطلب جهداً ضخماً ومشتركاً بين الأسرة كمسؤول أساسي عن التربية والتنشئة الاجتماعية، والدولة كمنظم للعملية التعليمية ووضع المناهج التي تصنع الهوية وتشحذ العقول.