إن العلوم لم تستأثر بها حضارة واحدة على مدى التاريخ، بل إنها تُنشئها حضارة وتُبدع في وضع أسسها ومبادئها، ثم تنزوي تلك الحضارة ولا تكون قادرة على الإضافة أو التجديد؛ فتتسلم تلك العلوم حضارة أخرى فتية فتنقدها وتبني عليها وتصوِّب خطأها وتكمل مسائلها وتصحح مسارها، وهكذا الأمر على مدار التاريخ.
لذا، فإن فكرة مركزية الحضارة الغربية هي محض كذب وافتراء، ودورات التاريخ لم تتوقف عند حضارة واحدة، بل هي دورات يتبع بعضها بعضًا.
والتفوق الحضاري الغربي هو مجرد دورة من دورات الحضارة والتاريخ، وليس نهاية الحضارات والتواريخ، وتوشك عجلة الحضارة أن تنتقل من الغرب لتتسلمها أمة أخرى وحضارة أخرى.
لذلك، التمسك بأهداب تلك الحضارة في مقابل مسخ الهوية الذاتية لنا لا يجعلنا من بناة الحضارات، ولا من منشئي النهضات، بل مجرد توابع لغيرنا.
وبعد مرور عقود منذ استقلال دولنا عن الاستدمار الفرنسي، فإنه ما زال هناك نوع تبعية وعدم تحرر بالكامل، ويظهر ذلك من خلال بعض المقاييس والمناهج التي ما زالت أسيرة ولم تتحرر بالتعريب الكامل لها.
فمثلاً مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء بقيت الرموز الفرنسية أو اللاتينية فيها، ولم يدخلها التعريب الكامل رغم القوانين المسنونة للتعريب.
وهناك في بعض بلدان المغرب العربي من لم يرض ببقاء الرموز الفرنسية في تلك المواد، فعمل على فرنسة تلك المواد تمامًا، وفرنسة تدريسها والتعبير عنها، وهذا الخطب أعظم.
وعندنا الحرب قائمة منذ فترة تظهر أحيانًا وتخفت أحيانًا أخرى؛ فمثلاً في عام 2016م هناك دعوات تردَّدت عن المضيِّ في البحث عن فرْنسة تدريس العلوم، وبصفة خاصة الرياضيات، والمحاولة ليست الأولى من نوعها.
ويبدو أن الحجة هي عائق اللغة في الجامعة التي تدرِّس العلوم بالفرنسية.
وهناك -أيضًا- قضية المستوى التحصيلي في هذه المادة الذي انخفض بسبب لغة التدريس، حسب بعض المزاعم.
وفيما يخص اللغة، لم نجد أحدًا من «الاتحاد العالمي للرياضيات» يوصي بالتدريس بلغة أجنبية للرفع من مستوى التحصيل، بل العكس تمامًا هو الصحيح.
فعندنا التعبير والشرح معرَّب والرموز لاتينية أو فرنسية، وهذا الازدواج سبب خلطًا وضعفًا عند الطالب في التحصيل العلمي؛ مما دعا مديري متوسطات وثانويات لمطالبة الوزارة الوصية بضرورة تشكيل لجنة تقنية يتم تكليفها بمهمة مراجعة القرار القاضي بتدريس المصطلحات والرموز الخاصة بمادة الرياضيات باللغتين العربية والفرنسية.
وطالب هؤلاء بالإبقاء على لغة تدريس واحدة والعمل على ضبطها بدقة، على اعتبار أن الدمج بينهما أي (اللغتين)، يعد أحد أسباب ضعف مستوى المتعلمين في المادة التي تعد أساسية بالنسبة للشعب العلمية في كافة المستويات خاصة أقسام الرابعة متوسط والثالثة ثانوي المقبلين على اجتياز امتحاني شهادتي التعليم المتوسط والبكالوريا.
وهذه اللغة العائمة لا نريدها، بل الشرح والرموز عليها أن تكون باللغة العربية؛ فهي رمز من رموز الهوية وعناوينها، ولن نعدم الترجمة التي تضبط الرموز.
ولماذا لا يصل التعريب للجامعة؟ ولماذا ما زلنا ندرّس بعض العلوم بالفرنسية؟ هل نحن نؤهل الطلاب لسوق العمل الجزائري أم الفرنسي؟
وهذا كأنه عمل مخطط؛ فمن يكمل تعليمه الجامعي يكون مؤهلاً ليقود المجتمع؛ فهو يمثل العقل، ومن توقف تعليمه فيما قبل الجامعة فهو ساعد البناء في المجتمع، والعقل والساعد هما عماد التنمية والنهضة؛ لكن الهجرة تُبطئ التنمية وتُخل بالنهضة.
هجرة العقول
إن هجرة العقول والسواعد من بلدنا لفرنسا مخيفة جدًّا، وتسبب إضرارًا ببلدنا؛ فبعد أن يتم الإنفاق والرعاية لتلك العقول والسواعد تقطف فرنسا الثمرة جاهزة؛ فلن يسافر أبناؤنا للدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية، بل ينطلقون إلى فرنسا رأسًا، ففرنسا بذلك تسرق أبناءنا كما كانت من قبل تسرق مواردنا.
ومن الأمور المترتبة على بقاء الفرنسية في مناهجنا إلف العُجمة بيننا، التي يعتبرها البعض غنيمة حرب، وهم مخطئون تمامًا؛ فهو حبل باق من حبال الاستدمار لم ينقطع بعد، وهو يطوق أعناقنا ويجرنا إليهم ويجعلنا تابعين لهم.
وبقدر إلفنا للعُجمة نبتعد عن اللغة العربية، ونستبدل الدخيل بالمعرب، وبدلاً من أن يكون الشرق قبلتنا يكون الغرب وجهتنا، والأدهى أن تجري العجمة على ألستنا ونظن أنها هي عربيتنا الدارجة، وما هي بعربية.
ومن الأمور المترتبة -أيضًا- على بقاء الفرنسية في مناهجنا فرنسة الإدارة عندنا؛ فإن بقي أبناؤنا في بلدنا ولم يهاجروا تبقى الإدارة فرنسية اللسان؛ فتكون المخاطبات الرسمية بالفرنسية، والتعاملات الإدارية فرنسية، والمصطلحات المستخدمة فرنسية.
والفرنسيون يريدوننا مجرد تروس في دولاب حضارتهم الكبير؛ ولا يريدون مفكرين منا، بل يريدون تقنيين وعمالاً يعملون ليل نهار مقابل بعض الميزات من مال وسكن وصحة، لكن إن خرجت عن الإطار المرسوم لك فعندها لا مرحبًا بك ولا أهلاً ولا سهلاً، وتُسحب منك كل الامتيازات الممنوحة لك.
وفرنسا بين الحين والآخر تسخر آلتها الإعلامية لمهاجمتنا ففي أكتوبر 2023م، قالت وسائل إعلام فرنسية: إن وزارة التعليم الجزائرية أصدرت تعليمة جديدة تمنع المدارس الخاصة من تعليم المناهج باللغة الفرنسية، واعتبر محللون فرنسيون أن السلطات الجزائرية تعمل على محاصرة لغتهم.
هم لا يريدون لنا أن نتحرر، هم يريدون تبعية تامة؛ لذلك الحرب شديدة.
وليس معنى تلك المهاجمة منا أننا نرفض تعلم اللغات الأجنبية ومنها الفرنسية، بل ندعو لتعلم اللغات دون أن تتأثر لغتنا، ودون أن تُمسخ هويتنا، نريد تعليمًا حقيقيًّا يبني الإنسان القادر على النهضة ببلده، والخروج به من ربقة التبعية والاستغلال.