أي إنسان هذا الذي امتلأ قلبه بالرحمة حتى لمخالفيه في العقيدة ومن أعلنوا الحرب عليه في الظاهر والباطن؟! أي عظمة إنسانية تلك التي جعلته يكاد يهلك نفسه الشريفة شفقة على مدعويه فيقول فيه رب العزة: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف: 6)؟! وصدق فيه قول ربه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، وقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159).
ونحن كبشر نفهم وندرك أن يحب المرء ذويه ويترأف بهم، لكن أن يحب من هم على غير ملته وهو المرسل برسالة من رب العالمين، أن يشفق عليهم ويرحمهم، أن يبذل الجهد ويحزن على إعراضهم، فذلك لم يأت إلا من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مظاهر رحمة النبي بغير المسلمين
بداية يجب أن نقرر أن هناك صفات شخصية للنبي صلى الله عليه وسلم أهَّلته ذاتياً لاختيار الله عز وجل له ليكون خاتم النبيين والمرسلين، منها الرحمة والصدق والأمانة والحياء.. وهناك صفات أخرى أهَّله الله بها لتحمل رسالته سبحانه، ومنها حادثة شق الصدر الذي قام بها جبريل عليه السلام في طفولة النبي عليه الصلاة والسلام لينزع منه حظ الشيطان.
وقد ساهمت صفات النبي صلى الله عليه وسلم بشكل كبير في نشر الدين الإسلامي، غير أن مرجعية ذلك كله لفضل الله أولاً وأخيراً وبما حباه من صفات فريدة.
وقد كانت الرحمة مبدأً أساسياً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» (رواه البخاري)، وكذلك فعل عليه الصلاة والسلام مع نفع الناس وخدمتهم فقال: «ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة» (رواه البخاري)، وهنا امتدت رحمته صلى الله عليه وسلم حتى للبهائم، وأما صور رحمته بغير المسلمين فنذكر منها:
1- الدعاء لهم لا عليهم: وذلك بالرغم من التطاول والأذى على شخص النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على الدعاء لهم؛ مما دفع يهود المدينة يتعرضون له وهم يتعمدون العطس ليدعو لهم بالرحمة أملاً في نيلها، ويوم ثقيف وما ناله من أذى كبير ثم يقف برحمته داعياً لهم.
فعن عائشة قالت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم «أحد»؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، ولقد أرسل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً» (رواه البخاري).
2- رحمته بنساء وأطفال غير المسلمين: القواعد التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل في السلم والحرب مع الشيوخ والنساء والأطفال لم تعرفها القوانين الإنسانية يوماً، فعن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، وقال: «اغزوا بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً» (رواه مسلم).
3- زيارة مرضاهم والإصرار على دعوتهم: لم يمنع عداء اليهود معه عليه الصلاة والسلام من عيادة مرضاهم والشفقة على من يتفلت منهم إلى النار، وحرصه على دعوة المرض للإسلام قبل موته شفقة عليه ورحمة به.
فعن أنس قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: «أسلم»، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار» (رواه البخاري).
4- العدل معهم: لم يمنعه كفر الكافرين برسالته من أن يعدل معهم وينصفهم في حقوقهم ويأمر المسلمين بالإنصاف معهم وعدم التعرض لهم بالإساءة ما لم تكن رد لإساءة أخرى، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا من ظلم معاهَدَاً، أو انتقصه حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة» (رواه أبو داود).
وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً) (رواه البخاري).
5- العفو عنهم عند المقدرة: فعن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد.
فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر فتركه حتى كان بعد الغد فقال: «ما عندك يا ثمامة؟»، فقال: عندي ما قلت لك فقال: «أطلقوا ثمامة».
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب دين إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليَّ، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر.
فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم. (رواه البخاري ومسلم).