ألفت عناية شبابنا المغتر اليوم بما يرى من اغتناء سريع لبعض التافهين، يسره لهم التفاعل على منصات التواصل الاجتماعي، التي تروج للإفلاس الأخلاقي والفراغ الثقافي والروحي بين شعوب العالم تمهيدا للسيطرة عليها مستقبلا. إن جمهورية الصين الشعبية تعمل بجد نحو الريادة العالمية وتضع لذلك خططا لتحطيم الوعي لدى شعوب ترى تحت أقدامها ثروات هائلة غير مستغلة، لا بد من تخدير أصحابها كيما يتم الظفر بها. منصة مثل الـ”تيك توك” التي أنتجتها الصين تخدم هذه الغاية بمكر وفاعلية. وليس عبثا أن تقدم الولايات المتحدة على حظر استخدامها فوق الأراضي الأمريكية.
فلسفة الاسترزاق
لست مخيرا في اكتساب المال كيف ما كان السبيل إليه، إنه رزقك الذي كتبه الله لك، وضمن إيصاله إليك، فما عليك -أيها المسلم – إلا أن تسعى وأن تجمل في الطلب. ومعنى “اجملوا في الطلب” التي نص عليها صاحب الرسالة، أن يطلب المرء الرزق من حله بطريق جميل فيه تقوى واستبشار، ليتحول الهم والكد في الاكتساب إلى عمل ممتع أشبه بالترفيه. ولقد كان هذا ديدن المجتمعات المسلمة عبر الأجيال السالفة، ولا يزال كذلك سجية في مناطق كثيرة سلمت فطرتها من التشويه والانحلال. وإنك لتلحظ اليوم على بعض الناس جرأة على الحق تبارك وتعالى غير محسوبة العواقب، يأمنون فيها من مكره تعالى بهم ومن عقابه الأليم، فما قدروا الله حق قدره ولا أمنوا على أنفسهم من بطشه.
إن جمع المال الوفير بلغو الحديث والتهتك الأخلاقي المجاهر به في الملإ بغية الاشتهار تكسبا للمال من الناس ليس مقصورا على فئات اجتماعية هش وعيها، أرادت من تلقاء نفسها أن تضيع أعمارها في ما لا طائل منه إلا من لذة عابرة غرتها بها الحياة الدنيا، لا تبالي بحلها أو بحرمتها، بل إن جهات نافذة تتمتع بالسلطة في الجزائر اتضح لنا أنها تشرف على هذه المهالك، من دون شعور بالمسؤولية وتأنيب الضمير على ما تخلفه هذه المغامرات من آثار وخيمة على منظومة القيم التي تسود داخل مجتمعاتنا المسلمة في العاجل والآجل.
وقائع لها مآرب أخرى
والحديث بالحديث يذكر في هذا السياق، فلقد احتفل زوجان من بلاد القبائل، منذ مدة، بعيد لهم على الطريقة الإفرنجية بقالب حلوى وإشعال الشموع، ولقد رأيتهما يوقدان الشموع بورقة نقدية من فئة ألف دينار في دلالة مغزاها الاشتكاء من غلاء المعيشة وتدني قيمة الدينار. ربما أنهما أرادا تبليغ رسالة سياسية عبر الفيديو الذي نشراه عن الاحتفال ولكنهما أساءا التعبير بهذه الفعلة النكراء.
الذي يهمنا في الواقعة، أن السلطات الرسمية سارعت إلى إلقاء القبض على الجانيين واقتادتهما إلى العدالة لاقترافهما جرم إهانة الرموز الوطنية العملة.
هذا، وللمفارقة فإن السلطات الجزائرية لم تقابل، بمثل هذه الإجراءات الحازمة، فعلة أخرى وقعت مؤخرا في قلب القطر الجزائري، لا تقل شناعة عما ذكرنا، راجت عبر منصات التواصل الاجتماعي، كان أبطالها ها هنا أناس مجهولون، وآخرون معروفون بحصص تليفزيونية همها التطبيل للحاكم العسكري في الجزائر، تداعوا ذات يوم إلى إحدى الدوائر من أجل إقامة حفل زفاف أرادوه “خياليا” لشخص معروف في البلدة بالعته، قد رفع عنه القلم، وجدوا فيه ضالة للسخرية والاستهزاء، وشهروه بين الجمهور على أنه فكاهي.
الذي شدني في هذا العرس الذي أقامه أراذل دخلوا المدينة من شتى أنحاء الوطن لا يقلون عتها عن صاحبهم، شاعت أخبارهم على المنصة سيئة الصيت بما لا يرضى من القول أن الحفل حضره ممثلون عن “المجتمع المدني” وفضوليون وتبعهم في ذلك بعض ذراري القرية. ومن العبث البين ضرره على المجتمع أن ينثر من كانت له حاجة في نفسه يريد قضاءها من هذه الزفة على العريس وابلا من الأوراق النقدية، ثم يقدم على تعصيب أصابع يديه المحناة بأوراق أخرى من فئة ألفي دينار، هي أكبر ما أصدر البنك الجزائري من عملات منذ الاستقلال، منقوشا عليها صورة مفجري ثورة التحرير المجيدة الستة.
مر الحادث وكأن شيئا لم يكن، أو كأن المسرحية قد أنجزت في قلب الجزائر العميقة لتبليغ رسالة إلى الجيل الجديد مفادها بأن التهتك والطيش وخفة العقل طرق موصلة إلى “النجاح”، النجاح بالمقياس المادي الذي عنوه هو جمع المال الوفير من غير سعي مشكور يأخذ بالأسباب في عالم الاقتصاد الحقيقي. وللعلم كذلك، فإن هذا الشاب المستهزأ بخلقته الدميمة وفحش كلامه وأجوبته العفوية غير الموزونة، كان منبوذا اجتماعيا، مدمنا على الكحول، يدفعه أهله وذووه بالأبواب. بدأت قصته بالانتشار بعدما تكررت زيارة رجال من الدرك الوطني إلى مقر سكناه في غير مهامهم الرسمية عدة مرات، ليتبنى الترويج له من بعد ذلك أشخاص ربما كانت دوافعهم في ظاهر الأمر الترفيه والتربح المالي على منصة الـ”تيك توك”، ولكن الحوادث أخذت صفة الفعل المنظم، المحصن عن الملاحقة القضائية رغم التجاوزات المرتكبة علنا، المعاقب عليها قانونا.
ليست هذه قصص معزولة هنا وهناك لا شيء فيها يسترعي الانتباه والنظر، بل إن ولاة معينين بمراسيم رئاسية على مقاطعات إدارية عظيمة الشأن في الغرب الجزائري، يبدون هم أيضا اهتماما لافتا حينما يؤدون واجبات مهنية بهذه التفاهات، ويتعمدون استصدار مقاطع فيديو تجمعهم بمساكين لا عقل لهم، قد تميزوا بما يثير في الناس الاستغراب والضحك المرضي، كيما يظهروهم للعلن نماذج تحتذى، أو تشغل الناس- على الأقل- عبر منصات التواصل الاجتماعي من دون محتوى يفيد.
تفاهات التدين المغشوش
وليست التفاهات مقصورة على إلحاق الضرر بالرموز الوطنية الواجب على السلطات حمايتها والذود عنها، بل إن الدين نفسه لم يسلم منها وهو أقدس الأقداس عند الجزائريين. فالاهتمام بجزئيات خلافية والدعوة إلى العمل بها، وربما كانت من المكروهات والمحرمات، أصبح يشكل علامة فارقة لطائفة من الناس تحاول عبثا تغيير الثوابت، فتراها تلجأ إلى إثارة مسائل فقاعية باتت تتميز بها في أوساط المجتمع، المنشغل بعضه بها والنافر بعض آخر منها، والساخر مما يرى ويسمع بعضه الآخر.
ولسوء الظن بهؤلاء القوم ما يبرره؛ لأن التفاهات المثارة من قبلهم مدعاة للتساؤل الموضوعي، فتشكيكهم بمشروعية عمل المحاماة والمحضر القضائي من دون توجيه الإصبع إلى القضاة أنفسهم، لكونهم العمود الفقري للسلطة القضائية تحاشيا للاصطدام مع ولي الأمر، أمر مستغرب. والمبالغة في سد الفرج بين المصلين في الصفوف بفتح الأرجل بطريقة قبيحة منكرة، ثم التساهل في إثارة الفتنة والكراهية بين أبناء قومهم، بحجة تصحيح العقيدة، تناقض صارخ في هذا المنهج كذلك.
وليس خافيا على أحد ألسنتهم الحداد الأشحة على الخير حينما سلق منظروهم المجاهد إسماعيل هنية حينما سقط شهيدا غيلة بطهران، فرب كلمة تكشف عما في صدور أصحابها فترديهم المهالك. فبتشفيهم حين قالوا عنه “مستراح منه”، وبمظاهرتهم الصهاينة والحكام العرب العملاء أبانوا عما في قلوبهم من ازدراء للأمة في موروثها الديني. وإن تعجب لأمرهم فعجبك منهم كيف لا يحرضون المسلمين على الأقصى الأسير، أو يدعون الأمة إلى النفير، أو يشنعون على الصهاينة المحتلين!
ورب ضارة نافعة كما يقول المثل، فإن هذه الشطحات المسلكية تحت شعار “السلفية” فتح الباب أمام العلماء وطلاب العلم لمراجعة التطور التاريخي للتشريع الإسلامي، خاصة في المرحلة التي ظهر فيها محمد بن عبد الوهاب (1115- 1206ه/ 1703- 1792م). ليخلص النابهون منهم إلى القول بأن الوهابية، إذا أحسنا الظن بها، ما هي إلا حركة إصلاحية في زمانها ومكانها اللذين ظهرت فيهما ليس أكثر من ذلك، وأن النسخ غير الأصيلة منها والتي تفرخت تباعا هنا وهناك ليست منها في شيء. بل إن “الوهابية السياسية” علامة بريطانية محفوظة، لها تجليات مشبوهة إلى يوم الناس هذا على بلاد الحرمين الشريفين وفي اليمن وليبيا كذلك. إن هذه الفراخ لم تتوان بعد أن ملكت شيئا من السلطة عن إعمال السيوف في رقاب المسلمين ببقاع شتى. وتلكم قصة مأساوية أخرى من حياة الأمة تستحق وحدها وقفة مطولة.
قياس مع الفارق
وللمقارنة رغم فارق القياس، فقد رغبت وكالة الاستخبارات الأمريكية أن ينشغل الأمريكيون بالصحون الطائرة ويجعلوا منها مثارا للخيال العلمي والقصصي والسنيمائي، حينما كان مشروع غزو الفضاء في أوجه إبان الحرب الباردة. لقد كانت الولايات المتحدة يومها تعمل على تطوير برنامج الصواريخ سريا، ولا مناص من أن يرى الناس أشباحا تطير في الفضاء فيذهب بهم الخيال كل مذهب. ولقد حفظ لنا التاريخ قصة مثيرة للإعجاب، عن النازي “فيرنر فون براون” (1912- 1977م)، الذي كان تحت أعين الجيش الأمريكي، عقب هزيمة الألمان في الحرب العالمية الثانية. إذ سرعان ما أدرك الأمريكيون بأنهم وقعوا على غنيمة حرب نادرة، ثمنها سياسيوهم لما يحمل هذا الرجل من معرفة عميقة في عالم فيزياء الفضاء، التي كان “أدولف هتلر” يعول عليها في حربه؛ فاستحوذت الولايات المتحدة على هذا العقل، ومنحته جنسيتها وكلما يلزم لتستفيد من علمه في إنتاج الصواريخ، فكان لها ما أرادت. وقضى الرجل نحبه وهو يلقب بأبي تكنولوجيا الصواريخ في أعظم دولة عرفها التاريخ المعاصر.