للشهادة في الإسلام مكانة لا يضاهيها فيها عمل آخر، حيث إنها المقام الأعلى في التضحيات الإنسانية، حيث يبيع فيها الإنسان نفسه لله مقابل رضاه والجنة فذهب إليه مختاراً مستجيباً لأمر ربه؛ (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111).
فضل الجهاد
المجاهدون رجال تركوا الدنيا خلفهم وانطلقوا ولم تعوقهم طفولة أبنائهم واحتياجات أهليهم وبكاء آبائهم، تركوا كل هذا خالصاً لله رغبة فيما هو عنده؛ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجُه إلا إيمانٌ بي وتصديقٌ برسلي أنْ أرجِعَه بما نالَ من أجرٍ أو غنيمةٍ أو أدخله الجنة، ولولا أنْ أشقَّ على أمَّتي ما قعدتُ خلفَ سريَّة، ولوددت أنِّي أُقتَل في سبيل الله ثم أُحيَا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل» (رواه البخاري)،
ومن فضل الجهاد أن يسبق الحج في المكانة، فعن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: أيُّ العمل أفضل؟ فقال: «إيمانٌ بالله ورسوله»، قِيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» (رواه البخاري)
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثَلُ المجاهد في سبيل الله -والله أعلمُ بِمَن يجاهدُ في سبيله- كمثل الصائم القائم، وتوكَّل الله للمجاهد في سبيله بأنْ يتوفَّاه أنْ يُدخِلَه الجنَّة، أو يرجعه سالمًا مع أجرٍ أو غنيمةٍ» (رواه البخاري).
والله عز وجل أكرم الأكرمين، فحين يهب الإنسان وقته لله، أو بعض ماله، أو صبراً على بعض قدره، جزاه الله عز وجل الجزاء الأوفى، فما بالنا بمن وهب نفسه كاملة لله؛ وهب عمره ومستقبله وأحلامه ومسؤولياته وأمنياته وحبه للدنيا، وهب كل هذا خالصاً لله راضياً محباً؟ كيف تكون عند الكريم مكانته؟ وكيف يكون أجره؟ لقد بلغت مكانته أن يكون الغبار المتطاير في أرض الجهاد فيزكم أنفه أو يغبر قدمه يكون له حاجزاً بينه وبين النار، فكيف بدمائه؟ يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعُ غبارٌ في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوفِ عبدٍ أبدًا» (أخرجه النسائي).
من هو الشهيد؟
الشهيد لغة: الحَاضرُ، وكُلُّ مَا كان شَهِد اللَّهُ فإِنه بِمعنى عَلِمَ اللَّهُ، وقَوْم شُهُود أَي حُضور، واسْتُشْهِدَ: قُتِلَ شهِيداً، والشَّهِيدُ: الحيُّ، والشَّهِيدُ: مِنْ أَسماء اللَّهِ، وَقِيلَ: الشهيدُ الَّذِي لَا يَغيب عَنْ عِلْمه شَيْءٌ(1)، ويطلق مصطلح الشهيد على من مات من المسلمين في قتال الكفار، ويشترط أن يكون القتال مشروعاً، والنية خالصة لله تعالى.
وللشهادة أكثر من صنف قد ذكرتهم السُّنة النبوية في أكثر من موضع، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء خمسة: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (رواه البخاري، ومسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيد» (رواه أبو داود، والترمذيٌ).
وللشهيد عند ربه مكارم وخصال يتفرد بها دون غيره: روى أحمد أن رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ -قَالَ الْحَكَمُ: سِتَّ خِصَالٍ- أَنْ يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ -قَالَ الْحَكَمُ: يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ- وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعَ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ» (رواه أحمد، والترمذي).
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ» (البخاري ومسلم)، وقال عليه الصلاة والسلام: «كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ المُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَكُونُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا، إِذْ طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالعَرْفُ عَرْفُ المِسْكِ» (رواه البخاري، ومسلم).
الشهيد في الفردوس الأعلى
والشهيد ليس في الجنة وحسب، وإنما يصيب الفردوس الأعلى منها، فعن أنس قال: سألتْ أُمُّ حارثة النبي صلى الله عليه وسلم عن ابنها حارثة، وكان قُتل يوم «بدر»، فقالتْ: يا رسول الله، إنْ كان ابني في الجنة صبرتُ، وإنْ كان غير ذلك، اجتهدتُ في البكاء عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أُمَّ حارثة، إنها جِنان في الجنة، وإنَّ ابنك أصابَ الفردوسَ الأعلى» (رواه البخاري)، وعن عبدالله بن عمر بن حرام استُشْهد يومَ «بدر»، فبكتْه أُخته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تُظِلُّه بأجنحتها حتى رفعتموه» (رواه البخاري، ومسلم).
نماذج من الشهداء في عصر النبوة
– حنظلة بن أبي عامر:
كان حنظلة قد ألم بأهله حين خروجه إلى «أُحد»، ثم هجم عليه الخروج في النفير فأنساه الغسل أو أعجله، فلما قتل شهيداً أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن الملائكة غسلته، فسمي «غسيل الملائكة»، وعن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة حنظلة: ما شأنه؟ قالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لذلك غسلته الملائكة».
– عمرو بن الجموح:
لا حجة لأحد في عدم سؤال الله الشهادة بصدق، حتى لو كان أعرج لا يستطيع المشي بصورة جيدة، أو كان مسناً لا يقوى على حمل السلاح، فالله عز وجل يرى القلوب الصادقة أو الكاذبة، ولا ينظر إلى الأجساد إن كانت قادرة أو غير قادرة، فهذا عمرو بن الجموح يَطلب من النبي صلى الله عليه وسلم في المعركة أنْ يدعو الله له بأن يرزقَه الشهادة في سبيل الله، وإلى جانب الشهادة طلَب من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن يدعو له أيضًا بأنْ تَصْحبَه عرجةُ قَدَمِه في الجنة، ويستجيب الله دعاءَ الرسول الذي قاله للصحابة بعد المعركة: «إنَّ الشهيد عمرو يتبخْتر بعرجته في الجنة».
– حمزة بن عبد المطلب:
قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله» (رواه الحاكم، وصححه الألباني).
_________________________
(1) لسان العرب (3/ 238 – 243).