مع تزايد التحديات التي يواجهها تعليم اللغة العربية لأطفالنا، يتعين علينا إعادة النظر في المناهج المعتمدة في هذا المجال كي تتناسب مع احتياجات الأطفال المعرفية وتنمي فيهم حب اللغة، ليس فقط باعتبار ذلك عملاً تربوياً، بل باعتباره أساساً في الحفاظ على هويتنا الإسلامية.
فارتباط اللغة العربية بهوية أمة الإسلام يقرره الواقع ويذكره القرآن تصريحاً، على نحو ما جاء في قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف: 3)؛ ولذا، فإن تطوير مناهج تعليم اللغة العربية للأطفال يعد أمراً حيوياً ويحتاج إلى دراسة مستفيضة، خاصة في ظل التغيرات الثقافية والتكنولوجية المتسارعة، التي تجعل عملية التطوير أبعد كثيراً من الاشتراطات الأكاديمية التقليدية، بل تجعل منها ضرورة ملحة لضمان قدرة الأطفال على التواصل الفعال وفهم ثقافتهم ودينهم، باختصار الأمر يتعلق بمصير أبنائنا ومستقبلهم وليس مجرد الارتقاء بمستوى تعليمهم.
يكشف واقعنا التعليمي أن كثيراً من المناهج الحالية تعتمد على بعض الأساليب التقليدية، مثل الحفظ والتكرار، التي قد تكون فعالة في مرحلة معينة ولكنها لا تبني مهارات التفكير النقدي أو الفهم العميق للغة، ويقودنا ذلك إلى سؤال أساسي: كيف يمكننا تطوير المناهج لتكون أكثر توافقًا مع احتياجات الأطفال المعرفية؟
أرى أن هذا التحدي يتطلب منا أن نبدأ من الأساس، الذي يتمثل في أن اللغة العربية يجب أن تكون أداة لفهم النصوص الشرعية والإسلامية، وفي الوقت ذاته وسيلة لتحفيز الإبداع والتفكير، فعند النظر إلى المناهج الحالية لتعليم اللغة العربية للأطفال، نلاحظ أنها تعاني من عدة مشكلات، فهي تفتقر إلى التنوع الذي يتناسب مع تطور وسائل التعلم الحديثة، سواء من خلال التطبيقات الرقمية أو الأنشطة التفاعلية، وهو ما أظهرته دراسة نشرتها مؤسسة «إديوكوز» في عام 2023م أنه غير قادر على تقديم بيئة تعليمية أكثر محفزة للأطفال؛ ما يجعل من الضروري دمج هذه التكنولوجيا في العملية التعليمية.
وفق دراسة أجراها د. حسين علي ناصر، في أبريل 2022م، على عينة تمثل 300 معلم ومعلمة في العراق لتطوير منهج اللغة العربية المقرر للصف الثاني المتوسط، تبين أن فهم المعلمين لخصائص نمو الأطفال كان له تأثير كبير على نجاح العملية التعليمية، لذا يجب أن تتضمن المناهج الجديدة إستراتيجيات تعليمية تأخذ بعين الاعتبار خصائص منها استخدام القصص والألعاب التعليمية التي تثير اهتمام الأطفال.
من هذه الزاوية، فإن الأدب القصصي يعد من الأدوات الفعالة في تعليم اللغة العربية للأطفال، إذ يساعد توظيفه في تنمية المهارات اللغوية والتعبيرية لدى الأطفال، وفي الوقت نفسه يمثل وعاء تربوياً وقيمياً لهم، خاصة إذا كان من قصص القرآن أو سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.
كما أن التكنولوجيا باتت جزءاً لا يتجزأ من حياة الأطفال اليوم، وبالتالي فإن دمج الوسائل التكنولوجية في مناهج تعليم اللغة العربية مثل التطبيقات التعليمية والألعاب الإلكترونية يمكن أن يعزز من فاعلية تعلمهم.
واستناداً إلى ما تثبته الدراسات الحديثة، يبدو الطريق الأكثر فاعلية، هو الجمع بين الطرق التقليدية والحديثة في منهج تعليم اللغة العربية لأطفالنا، بحيث يمكننا الاستفادة من التكنولوجيا بشكل كبير مع عدم إغفال مزايا وإيجابيات طرق التعليم التقليدية التي سادت قديماً، خصوصًا في تنمية القيم والتقاليد اللغوية، فالقصص القرآنية والحديث النبوي عنصر رئيس في تعليم الأطفال اللغة العربية، وقد أثبتت المناهج التي تقتصر على تعليم اللغة العربية دون ربطها بالقرآن والسُّنة فشلها في تشكيل ملكة لغوية لدى الأطفال، وهو ما اتبعه النبي صلى الله عليه وسلم نفسه عندما استخدم أسلوب القصص لتعليم الصحابة، وهو ما أرى ضرورة أن نعيد إحياءه في مناهجنا.
هذا السلوك النبوي لم يكن سوى تطبيق لنهج قرآني ذكره الله تعالى في كتابه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُو۟لِي ٱلْأَلْبَابِ) (يوسف: 111)، فالقصص التي وردت في كتاب الله ليست مجرد حكايات، بل هي وسائل تحمل عبرة وعظة وتحفيزاً للعقول على التفكر والتدبر، وهو ما كان سائداً في أروقة «الكتاتيب» حتى عقود قريبة مضت.
ومن أبرز الطرق التقليدية التي سادت في «الكتاتيب» حتى بدايات القرن الماضي: استخدام الأسلوب الشفاهي في حفظ القرآن وتلاوته، وهو ما ثبت علمياً أنه من أهم محاور بناء المهارات الأساسية التي تُمكِّن الطفل من فهم اللغة العربية واستخدامها بفعالية، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة هومبولت في ألمانيا، عام 2021م، أن الأطفال الذين يتمكنون من الاستماع إلى محادثات باللغة الأم يتعلمون بشكل أسرع من أولئك الذين يقتصر تعلمهم على القراءة فقط.
وينصح التربويون بضرورة تطوير مهارات الاستماع والتحدث لدى أطفالنا، وهو ما تميزت به الكتاتيب قديماً عبر تركيزها العميق على تعليم اللغة العربية من خلال القرآن الكريم وحفظ النصوص الدينية، هذا النموذج التعليمي يتيح للأطفال أن يتقنوا اللغة العربية الفصحى منذ صغرهم، وهي خطوة ضرورية لتقوية أساسيات اللغة وتعزيز قدرتهم على التعبير بطلاقة.
لكن الأهم من ذلك هو تشجيع الأطفال على استخدام اللغة في حياتهم اليومية، فوقت تعلم الدروس المباشر يظل محدوداً، وعلى سبيل المثال يمكن للمدارس تخصيص وقت للتحدث باللغة العربية من خلال الأنشطة اليومية مثل لعب الأدوار أو التحدث عن الأنشطة المدرسية، وهي أساليب تعزز قدرة الطفل على التفكير باللغة العربية؛ ما يسهل عليه اكتساب المهارات اللغوية الأخرى مثل القراءة والكتابة.
كما أن أي تطوير لمناهج تعليم اللغة العربية دون اهتمام بدور المعلم وتطويره هو حرث في الماء، فلا تطوير للتعليم بدون تطوير للمعلمين وتدريبهم على الأساليب التربوية الحديثة التي تشجع على التفكير النقدي والتفاعل الإيجابي مع الطلاب، وهنا نقطة أساسية تتمثل في ضرورة أن يكون لدى المعلم وعي كامل بأن تعليم اللغة العربية ليس مجرد نقل للمفردات أو القواعد النحوية، بل هو عملية تربوية تشمل تعلم قيم الثقافة الإسلامية والإحساس بهوية اللغة.
إن عملية تطوير المناهج التعليمية دون وجود آلية تقييم مستمرة يعني تكرار أخطاء الماضي الذي أسفر عن مناهج منفرة من تعلم اللغة العربية، وعليه فإن مراجعة المناهج بانتظام بناء على النتائج التي يحصل عليها الطلاب في اختبارات المهارات اللغوية يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من عملية تطوير مستمرة وليست موسمية.