الناس قبل مبعث نبينا – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – كانوا في ظلمات بعضها فوق بعض
الناس قبل مبعث نبينا – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – كانوا في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج أحدهم يده لم يكد يراها، من شدة الظلمة، وقسوة الجهالات، حتى سادت البشرية، بسبب حالة من مفاهيم البؤس، وتصورات التراجع، وآليات التعاطي المرير، بكل أنواع المرارة، وألوانها، وطعومها، وروائحها، ما جعل البشرية، تتيه في بيداء الضياع، وتشرد في صحراء العماوة، وتغلب عليها لغة القسوة، وانحدار الأخلاق، فدخلت البشرية، في النفق المظلم، وصارت في عنق الزجاجة، إلا في اليسير النادر، الذي بعث رسولنا ونبينا – عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- ليتممه.
ومن المنحنيات الخطيرة التي كانت تعيشها تلك المجتمعات، لتوقعها في براثن الضياع، ومستنقعات العفن الجاهلي، قضية عدم وضوح الرؤية، في مسألة الولاء والبراء، نوالي من؟ نعادي من؟ نحارب من؟ نسالم من؟ نحب من؟ ما أساس العلاقة، التي ينبني عليها سلوك الناس وتصوراتهم؟ كيف تكون محاور اللقاء الاجتماعي، في عالم فرز الأخلاق، وفلسفة الحضارة؟ كيف تؤصل الروابط؟ ما ضوابط ذلك؟ وعلى أي قانون تسير، وعلى وفق أي قواعد تعمل؟
هل يكون الولاء والبراء، على مبادئ القبيلة؟ وقانونها الحاكم آنذاك؟ فننصر ابنها، كيف كان موقفه؟ ظالماً أو مظلوماً؟ المهم أن يكون محور هذا الشأن، ما تدور حوله مفاهيم القبيلة، والتعصب لها، والتغني بمآثرها، والارتباط النسبي، بغض النظر، عن نواتج الأمر ومآلاته؟ هذا كان حاصلاً في بقعة من بقاع الأرض، حتى صارت غزية، هي المعيار، وهي مؤشر الدلالة، للخير من عدمه، وحتى يرسخ هذا المعنى، غذى هذا الارتباط، بمعالم التواصل الاجتماعي، ليصل إلى الفخر بالأنساب، والعدوان على بعضهم بعضاً، في دوائر الطعن بالأنساب، وربما نتيجة هذه الحزمة – من قيم التفكير والسلوك – حدثت مشكلات، قادت إلى حروب جاهلية، دامت عشرات السنين، على أمر تافه، وقضية حقيرة.
تقسيم المجتمع
وتبرز معضلة أخرى، في بعض المجتمعات، التي إذا أردنا أن نحاور تاريخها، ونطلب منه الإجابة، على ذات السؤال آنف الذكر، فيقلب صفحات أسفاره، لتنطق صارخة، في تقسيم المجتمع، إلى طبقات، تفرزها وقائع الصنعة، وممارسة الحرفة، أو اللون، أو غير ذلك، من صوافع التقدير غير الصحيح، ماضية على غير هدى، محطمة مراكب الرحمة، وقوارب العدل، ومنارات التكافؤ البشري، لتكون طبقات الناس مقسمة، على أسس الضياع، ومفاهيم المؤامرة، على إنسانية الإنسان، ومن يراجع كتاب سماحة العلامة أبو الحسن الندوي – يرحمه الله تعالى- “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” يجد هذه الصفحات، من تاريخ تلك الحقبة، وما فعلت وارتكبت من جناية، بحق إنسان تلك الأجيال، وأثر ذلك على كل جوانب حياتهم.
ولا نريد أن نستفيض في ذكر النماذج، لتأكيد هذه الحقيقة المرة، كما لا نحب استقصاء تلك الحالات التي تدلل على شمول القضية، في الوصف الذي ذكرنا، حتى لا يخرج البحث عن مراده، واللبيب من الإشارة يفهم.
بعث رسولنا الكريم – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – بالهدى ودين الحق، بشيراً ونذيراً، ومربياً ومزكياً، وداعية إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، فأشرقت الأرض بنور ربها، وتزينت بهدي نبيها – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – وبدأت الحياة تتغير، والدنيا تتجدد، بالإيمان وركائزه، وتبددت المفاهيم البالية، بالتصورات التي تتكون منها ثقافة الفرد والمجتمع، وإصلاح منظومة الأخلاق، تظهر زاهية، كل ذلك، من خلال دستور من وحي الله عز وجل، إنه ميلاد جديد، صيغ على قيم الحق، وقواعد الفضيلة، بميلاد فرد صالح، وأسرة في ظلال الأمن تنعم، ومجتمع يتمتع بخصائص العطاء، ودولة تعمل على تحقيق الاستقرار، بمفهومه الشامل، وأمة تمثل حالة القوة، بكل مكوناتها، وسائر تفاصيلها.
تميز حضاري
من هنا كانت التربية الإسلامية، المركزة على فقه الإخاء، القائم على التميز الحضاري، الذي سيعلن عن تشكيل جديد، في عالم حقوق الإنسان، بشكلها الصحيح، وسياقاتها البناءة، ومنها إلغاء ما كان ضاراً بهذه القيم على أرض الواقع، بروحية الحقيقة، وواقعية الفطرة، فتعود الأمور إلى نصابها الطبيعي….
قال الله عز وجل: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {22}) (المجادلة).
إنها لغة لا أنصاف حلول فيها، واضحة المعالم، بينة السبيل، جلية الهدف، قوية الغاية، كبيرة الفهم، واقعية الأداء.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات).
وهذا من واقعية المنهج، فالحياة رتبت، بما خلقها الله عليه، من تركيب بشري، وتقسيم سكاني، فالأمر الواضح، أن الناس، شعوب، وهم قبائل، وبطون وأفخاذ، وأنساب مختلفة، وإن كانت النتيجة “كلكم لآدم وآدم من تراب”. فالخلاف، في مناهج التعاطي مع هذه الحقيقة، وليس في إثبات أصلها.
من هنا تجد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يلغِ القبيلة، ولا طالب الناس أن ينسوا أنسابهم، أو أن يتخلوا عن أصولهم، بل تعامل معها بواقعية، ووجهها توجيهاً إنسانياً رائعاً، جعلها تصب في خانة الإيجاب، وقاوم مظاهر الهدم التي تكتنفها، فحولها من الهدم إلى البناء، وهذبها حتى صارت عامل خير، ولبنة فضل، وقوة حضارة، وبرمج الذهن، ومن ثم السلوك، على هدف الحياة، والغاية من خلقنا في هذه الدنيا، فعمل على توجيه الاهتمام نحو الهدف، بلا عوائق، ولا عراقيل.. وهنا تبرز قيمة “لتعارفوا”، لأن الله خلق الخلق، بهذا التقسيم والتفاوت، كي يتم تداخل الحياة، من خلال مسننات التشابك، لتدور العجلة، آمنة مطمئنة، متعاونة متآزرة، فيصير التنوع سبباً في ديمومة الحياة وجمالها، وسبباً من أسباب التعايش، بين البشر، ولو كانت لوناً واحداً، لتعرقلت سبل الحياة وضاقت، ولتعوقت وفسدت، فليس العيب في التنوع والتشكيل، بل هو الأصل الذي لا قيام للحياة، إلاّ به، وإنما العيب والخلل، في البشر الجهلاء، الذين حولوا النعمة إلى نقمة، واستخدموا مراكب الخير، للوصول إلى شواطئ الضياع.
عوائق على الطريق
والفخر بالأنساب، والتعالي بالأحساب، والتغني بأمجاد الآباء، ولو كانوا على ضلال، وجعل الولاء والبراء مقياسه توجهات القبيلة، بعجرها وبجرها، وغيرها مما يدخل في بابه، عوائق على الطريق، لابد من التخلي عن هذه العوائق، مع المحافظة على الأصل، بلغة الأخوة الإسلامية، ذات الوصف الإنساني، الجامعة لكل خير، والمانعة لكل شر؛ لذا كان معيار التقويم في نهاية المطاف (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، فالقبيلة وحدة مهمة من وحدات تكوين بعض المجتمعات إلى يومنا هذا، فإن كان التعاطي معها بلغة البناء، فسيكون لها أثر كبير في صناعة المجد، بمعناه الشرعي، وإن كانت غير ذلك فهي الجاهلية الأولى.
معيار التقويم
التقوى بمفهومها الشامل، الذي ينتظم شؤون الحياة كلها، هي معيار التقويم، وهي ميزان التعديل، وهي مقياس التقديم والتأخير، وضوابط الصلاح والفساد، والخير والشر، فتكون التقوى في التصور والفكر، والعقيدة والمثاقفة، وفي العبادة المحضة والذكر، كما تكون في السوق، وسائر المعاملات، وفي الاقتصاد، كما في السياسة، والآداب والفنون، كما أنها لا فصل في مكوناتها، بين الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة والإنسانية، تكاملاً وتداخلاً، والفصام النكد، في الفصل بين هذه المكونات، في عالم التقى، كارثة من كوارث الواقع.
عليك بتقوى الله في كل حالة
ولا تترك التقوى اتكالاً على النسب
لقد رفع الإسلام سلمان فارس
وقد وضع الشرك الشريف أبا لهب
دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ
بكل ما في الكلمة من معاني السوء، وسلال الشر “منتنة” إذا كانت عصبية على أساس اللون، وكل أشكال التمييز العنصري، “منتنة” إذا كانت على حساب الحق، “منتنة” لما تقدم على حكم الشرع، “منتنة”، فعلاً لأنها جيفة، ولو كانت لها رائحة مادية، وجرم ملموس، لشعر الناس بخطورة جيفتها، وإزعاج رائحتها، وسوء منظرها، وقباحة شكلها، ولسعوا جميعاً إلى دفنها، لأنها مفسدة للمجتمع، ومقلقة للحياة، ومشتتة للأمة، وهدامة للإنسان، وجالبة للأمراض.
قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: “يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلّغت؟”، قالوا: بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. (رواه أحمد، وصححه الألباني).
عن أبي هريرة وفي صحيح مسلم، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.
وصارت الأجيال تتغنى، بالقيم، وتنشد للمبادئ، وتترنم بالتعاليم، وتشدو بالروح الجديدة، التي صارت تسري، في جسد هذه الأمة، فصارت الصورة غير الصورة، والشكل غير الشكل، والحقيقة الحلوة، غير تلك المعاني المرة.
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
إن يختلف ماء الوصال فمـاؤنا
عذبٌ تحدَّر من غمامٍ واحدِ
أو يفترق نسب يؤلف بيننا
دين أقمناه مقام الوالد
وحارب الإسلام كل أنواع العصبيات، عصبية النسب، عصبية المنطقة والإقليم، عصبية اللون، عصبية المذهب، عصبية المدرسة، عصبية الاجتهاد، عصبية شيخ أو عالم، عصبية القوم.
عصبيات مرفوضة
فالعصبيات يرفضها الإسلام، ويندد بأصحابها، ويعتبرهم على ضلال مبين، وخطر عظيم، هم المفرقون للأمة، والمهددون لوحدة الوطن، والعازفون على وتر شتاته، والناسجون شباك عناكب فتنته، في زوايا الظلمة، والأركان المهجورة، والمساحات المهملة، وانتقلت هذه العصبيات إلى مستوى القطر والبلد، بل إلى حدود المحافظة، بل القرية والحارة، وضاقت في نفوس بعض الناس، حتى انحصرت في الأسرة، وتقلصت في أذهان الحمقى، حتى صارت محصورة في البيت، وربما لم يسلم البيت الواحد، من هذا النتن: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية»،
روى مسلم، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ”.
والحديث الذي، رواه البخاري ومسلم، عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ!
فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: “مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟”، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ.
فَقَالَ: “دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ”.
والكسْع: ضرب الدبر باليد أو بالرجل.
وروى مسلم َعْن جَابِرٍ قَالَ: اقْتَتَلَ غُلَامَانِ: غُلَامٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، وَغُلَامٌ مِنْ الْأَنْصَارِ؛ فَنَادَى الْمُهَاجِرُ – أَوْ الْمُهَاجِرُونَ -: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! وَنَادَى الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “مَا هَذَا؟! دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؟!”، قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّ غُلَامَيْنِ اقْتَتَلَا، فَكَسَعَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.
قَالَ: “فَلَا بَأْسَ؛ وَلْيَنْصُرْ الرَّجُلُ أَخَاهُ، ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا؛ إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ، فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ”.
قال النووي رحمه الله في “شرح مسلم”: “وَأَمَّا تَسْمِيَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ كَرَاهَة مِنْهُ لِذَلِكَ; فَإِنَّهُ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ التَّعَاضُد بِالْقَبَائِلِ فِي أُمُور الدُّنْيَاوَمُتَعَلِّقَاتهَا, وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَأْخُذ حُقُوقهَا بِالْعَصَبَاتِ وَالْقَبَائِل, فَجَاءَ الْإِسْلَام بِإِبْطَالِ ذَلِكَ, وَفَصَلَ الْقَضَايَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة، فَإِذَا اِعْتَدَى إِنْسَان عَلَى آخَر حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنهمَا, وَأَلْزَمَهُ مُقْتَضَى عِدْوَانه كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام.
وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِر هَذِهِ الْقِصَّة: “لا بَأْس”؛ فَمَعْنَاهُ لَمْ يَحْصُل مِنْ هَذِهِ الْقِصَّة بَأْس مِمَّا كُنْت خِفْته; فَإِنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُون حَدَثَ أَمْر عَظِيم يُوجِب فِتْنَة وَفَسَادًا, وَلَيْسَ هُوَ عَائِدًا إِلَى رَفْع كَرَاهَة الدُّعَاء بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة” انتهى.
تشكيل العقل
جاءت تربية النبي- صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين – بتصحيح المفاهيم الضابطة، وتوضيح المسار، وتشكيل العقل، ووضع خريطة ذهنية جديدة، لفقه الأخوة، ومعاني الألفة، وتعديل المفاهيم الظلامية، إلى تصورات صحيحة، كي لا يختل الميزان، وحتى نعلم بأن عملية بناء الأخوة، تحتاج إلى برامج، وإلى جهود، وإلى تربية وتكوين، وليست المسألة مجرد أفكار تردد، وفلسفة تلاك.
قول النبى صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالماً أو
مظلوماً”، قيل: يا رسول الله، فكيف أنصره ظالماً؟ قال عليه الصلاة والسلام: “تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه” (حديث متفق عليه)، وهذا نموذج من نماذج التغيير بالقول، من البشير النذير، عليه الصلاة والسلام.
روى الإمام أحمد في المسند، والإمام البخاري والإمام مسلم، في صحيحيهما، وأبو داود في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى، (واللفظ له)، وغيرهم، من طريق المعرور بن سويد قال: قدمنا الربذة فأتينا أبا ذر فإذا عليه حلة، وإذا على غلامه أخرى، قال: فقلنا: لو كسوت غلامك غير هذا، وجمعت بينهما فكانت حلة، قال فقال: سأحدثكم عن هذا أني ساببت رجلاً، وكانت أمه أعجمية، فنلت منها، فأتى رسول الله صلى الله فقال لي: “فهل عليه وسلم”، فشكاني إليه، فقال لي: “أساببت فلاناً؟”, قلت: نعم, قال: “ذكرت أمه؟”, فقلت: من يسابب الرجال، ذكر أباه وأمه يا رسول الله, قال: “إنك امرؤ فيك جاهلية”, قال: قلت: على ساعتي من الكبر؟ قال: “نعم!! إنما هم إخوانكم”.
وهذا مثل، في التزكية والتربية والتوجيه، لصناعة جيل الأخوة، وتمثلها على هيئة عملية، في الجيل الأول، وفي الأجيال الإسلامية من بعد.
يقول سيد – رحمه الله -: “من العصبية القبلية، بل عصبية العشيرة، بل عصبية البيت، التي كانت تسود الجزيرة العربية.. ومن عصبية البلد، وعصبية الوطن، وعصبية اللون، وعصبية الجنس.. التي كانت تسود وجه الأرض كله.
إنسانية واحدة
من هذه العصبيات الصغيرة التي لم تكن البشرية تتصور غيرها ذلك الزمان، جاء الإسلام ليقول للناس: إن هناك إنسانية واحدة، ترجع إلى أصل واحد، وتتجه إلى إله واحد، وإن اختلاف الأجناس، والألوان، واختلاف الرقعة والمكان، واختلاف العشائر والآباء.. كل أولئك لم يكن، ليتفرق الناس ويختصموا، ويتحوصلوا وينعزلوا، ولكن ليتعارفوا ويتآلفوا، وتتوزع بينهم وظائف الخلافة في الأرض، ويرجعوا بعد ذلك إلى الله الذي ذرأهم في الأرض، واستخلفهم فيها”.
ويتجلى الأمر بكل أبعاده، من خلال سلة الحقوق والواجبات، والتجارب والأمثلة، ففقه الأخوة الإسلامية، غني بالأدلة الدالة على الخير، ومليء بأصول التربية، ومناهج السياسة الشرعية، التي جعلت من هذا منهجاً رائداً، ينبغي لكل أحد الرجوع إليه، والنهل من معينه الثر.
بوارق:
– المسلم الحق، هو من تمسك بقيم السماء، وترك تعاليم الوحل والطين، وبهذا يحقق، خاصية التوازن، بين الفكرة وتطبيقها.
– الوطني الصادق، هو من يرتفع إلى مستوى الفهوم الراقية، ليخرج من حصر مفهوم الوطن، بالانغلاق، إلى ربوع الفسحة الربانية التي أكرمنا الله بها.
– ولا خير في امرئ لا يعود خيره لأهله وبلده ووطنه.