وإن القلب ليعتصر ألماً، وليدمع دماً حين يرى أصنافاً من الناس من بني جلدتنا يأكلون مما نأكل، ويأخذون من الصلاة كما نأخذ، وربما كان أحدهم من مرابطي الصفوف الأولى في المساجد، حتى إذا جاء وقت الانحياز والولاء والتبعية والنصرة وتمايز الصفّان: اتهم المُصلح
في القرن الخامس الهجري انفرط عقد وحدة الأندلس وانقسمت إلى ممالك صغيرة، عقاباً ربانياً للمسلمين على تفرقهم وتشتتهم وحرب بعضهم بعضاً؛ (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال:46)، وكانت كل دويلة تحكم نفسها مستقلة، بل وتقاتل جارتها المسلمة استقلالاً وأحياناً بالاستعانة بالنصارى من جيرانها!
فهمّ “ألفونسو”، ملك الإسبان، للهجوم على المسلمين، وبدأ يزحف على واحدة واحدة، وفكّر المعتمد ابن عبّاد بالاستنجاد بيوسف بن تاشفين، أمير المجاهدين بالشمال الأفريقي، كونه آخر الأمل قبل سقوط الأندلس، فقام بعضهم يخوفوه وقالوا: إذا دخل ملك المغرب الأندلس أخذها وتملكها وجعلك له راعياً؛ فرد عليهم بقولته المشهورة: “لأن أرعى الإبل مع أخي المسلم خيرٌ لي من أن أرعى الخنازير للفرنج”!
وكانت سبباً في الانتصار وفي تأسيس دولة المرابطين في الأندلس، وفي تأخير حكم المسلمين للأندلس أربعمائة سنة أخرى!
هذه هي عقيدة الولاء والبراء التي لولا أهميتها لما ذكرت في القرآن الكريم 92 مرة، كما يقول العلّامة الشوكاني. والتي لولاها لما صدح القرآن في نصوص صريحة قاطعة تعبّر عن المفاصلة الكاملة: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {6}) (الكافرون)، (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة:51)، فوق أنه سنّ قراءة سورتي “الإخلاص” و”الكافرون” في ركعتي الفجر؛ فيكون بمثابة تجديد للعهد بعبودية الله في الأولى، ثم تجريداً للولاء والمفاصلة الكاملة في الأفكار والمناهج والسياسات والتوجهات.
إن المسلم مهما يظهر منه من تقصير وخلل واعوجاج أو مخالفة في فكرة جزئية فهو في كفة، والكافر ومن يخالفني في الهدف والمبادئ من منافق وعميل في كفة أخرى بتباين واضح لا لبس فيه ولا غموض!
وإن القلب ليعتصر ألماً، وليدمع دماً حين يرى أصنافاً من الناس من بني جلدتنا يأكلون مما نأكل، ويأخذون من الصلاة كما نأخذ، وربما كان أحدهم من مرابطي الصفوف الأولى في المساجد، حتى إذا جاء وقت الانحياز والولاء والتبعية والنصرة وتمايز الصفّان: اتهم المُصلحين بالإفساد والعناد، ووادع أو طبّل أو أيّد الظالمين في ظلمهم، أو ساوى بين الضحية والجلاد في أحسن أحواله! تماماً كقوم فرعون؛ (وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (الأعراف:127).
ويتكرر الملأ هذا في كل زمان ومكان، ففي هذه الأيام انتشرت عفونة أبواق التصهين العربي على السطح، وفاضت مراحيضها في كل مواقع التواصل وقنوات الإعلام في منظومة إعلامية عربية متصهينة تقوم بدور “أفيخاي أذرعي”، الناطق الصهيوني للكيان الغاصب، وتكفيه مؤونة النشر والدفاع عن أتباعهم من بني يهود، في انتكاسة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من تأييد طاغية مصر و”نتنياهو” والكيان الصهيوني ويهود العرب المستعربة، وجلد الضحايا بألسنة حداد كرابعة وغزة وغيرها مما يطول ذكره ولا يخفى على ذي عقل وبصيرة.
والمتتبع يرى أن تعدد أصناف هؤلاء لا يعدو واحداً من ثلاثة:
“جامي” يقتات على فُتات موائد السلطان، أو “ليبروفاشي” مغسولٌ عقله بحمض الكبريت المركز ومسقيٌّ بعصائر التغريب من عولمة وعلمانية وربما رافضية أحياناً! أو تابعٌ لأحد هؤلاء ممن يكثر سوادهم من جنود استخبارات الطغاة المبثوثين كالجراد والقمّل والضفادع في جو وبر!
لقد فاق الانحراف كل التصورات والمبادئ والقيم من انحياز في المحبة والأفكار إلى الانحياز والولاء في النصرة؛ وهم ما يؤذن بالغضب والمقت الرباني: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً {144}) (النساء)، (} تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ {80}) (المائدة)، وقال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (هود:113).
فإذا كان مجرّد الركون إلى الذين ظلموا ظلمٌ، فكيف بالظلم نفسه والكيل بمكيالين على الضحية والتشفي من مظلمة ومقتلة إخوانه المسلمين.. وقد سأل السجانُّ الإمام أحمدَ بن حنبل: هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال له: لا.. لست من أعوان الظلمة، إنما أعوان الظلمة من يخيطوا لك ثوبك، ومن يطهو لك طعامك، ومن يساعدك في كذا، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم!
وبمثل هذا يكون فقه الانحياز الذي عبّر عنه الفقيه العلامة ابن عقيل الحنبلي حين صدح يجلجل قلوب المجترئين والمنافقين من أبناء جلدتنا بقوله: “إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان, فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع, ولا ضجيجهم بـ”لبيك”, وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة “.. فإسلام المسلم عنده ليس المزاحمة في الصفوف الأولى والمشاركة في الموقف المُهيب في عرفات بلبيك، إنما هو الإسلام الكامل الذي يتبعه الانحياز الكامل لحزب المؤمنين وجماعتهم وتأييدهم ونصرتهم في أي موقف يظهر فيه تمايزٌ للطرفين، وعلى دعاة الإسلام أن يحفظوا هذا النص ويكتبوه بماء الذهب؛ لأنه عبّر عن أعداء الشريعة والملة الحنيفية في القرن الخامس والسادس، فكيف بمتصهينة القرن الرابع عشر ولا ابن عقيل لهم!
وعلى قيادات التوجيه والتأثير في الأمة التصدي لهذه الأبواق وتشريحها وفضحها أمام أمة الإسلام كترجمة حية لعقيدة الولاء والبراء التي هي عقيدة عمل ومفاصلة، لا دروس تحفظ وتدرس في كتب العقيدة ثم تتوارى خلف الباب إذا ما رأت هيلمان الجبروت والسلطنة والطغيان!
إن الغربال مستمرٌ في التمحيص والغربلة لجميع الأمة في هذه الأحداث، وربيع العرب بالذات، ولم ولن ينجُ منه أحد، حتى يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يصبح كافراً ويمسي مؤمناً، وهو قابعٌ في بيت أبيه وأمه لكنه منحازٌ لإحدى الطائفتين ومؤيد لأحد المعسكرين!
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ {142}) (آل عمران).
إن من وضع المسلم التقي مع العدو في جبهة واحدة، لخلل الولاء والبراء في عقيدته؛ يحق لنا أن نضعه مع “السيسي” واليهود في مزبلة واحدة، وعند الله تجتمع النوايا، وسيخيب من افترى كذباً وحاد ومال ومشى برجل عرجاء.