ذهب “تسفي برئيل” محلل الشؤون الإسرائيلية بصحيفة “هآرتس” العبرية إلى أن الرئيس التركي رجب أردوغان قرر العودة والانفتاح ليس فقط على دول المنطقة بما فيها إسرائيل، بل أيضاً إعادة جميع العلاقات التي تضررت خلال السنوات الماضية إلى سابق عهدها بما في ذلك مع روسيا.
ورأى إلى أنه ومع استقرار الجبهة الدبلوماسية لأردوغان بفضل تحسن العلاقات مع روسيا وإسرائيل، يؤكد الهجوم الإرهابي على مطار أتاتورك أمس الثلاثاء أن تركيا ليست في مأمن من البنية التحتية لإرهاب داعش والأكراد.
إلى نص المقال..
فيما تستقر الجبهة الدبلوماسية التركية، جاء هجوم أمس الذي سقط فيه عدد كبير من الضحايا والمصابين في مطار أتاتورك وأوضح مجدداً أين توجد الجبهة الحقيقية.
هذا هو الهجوم الثاني في الشهر الجاري والسابع خلال عام مضى، وعلى ما يبدو نفذت بعض الهجمات على يد ناشطي تنظيم بي كي كي (حزب العمال الكردستاني) وبعضها على يد الدولة الإسلامية (داعش).
لم يعد بمقدور تركيا منذ وقت طويل الادعاء أنها في مأمن من هجمات داعش، بعد انضمامها للمنظومة العسكرية التابعة للتحالف الغربي.
من الصعب اكتشاف مثل هذا الهجوم وإحباطه في اللحظة الأخيرة، ويمكن أن يدل على أنه ورغم الجهود الاستخبارية الهائلة التي تبذلها تركيا في اكتشاف خلايا داعش والحرب التي لا هوادة فيها ضد نشطاء بي كي كي. في تركيا بنى تحتية إرهابية تنجح في تجاوز الرادار الاستخباري وإصابة أهداف مدنية.
من المبالغ فيه أن نعزي توقيت الهجوم لتوقيع اتفاق المصالحة مع إسرائيل أو اعتذار أردوغان لبوتين بشأن إسقاط الطائرة الروسية، لكنه سيحبط الأمل الذي علقته تركيا حول إمكانية أن يحدث تحسن العلاقات مع الدولتين تحولاً في حركة السياح.
صحيح أن تركيا ينظر إليها منذ فترة كدولة خطرة، لكن الهجوم على المطار المكتظ بقوات الأمن، والذي تعد أنظمة التأمين داخله ممتازة، لا يؤكد فقط على المهارة والمقدرة، بل أيضاً على التطور في أهداف الهجمات، التي ورغم أنها موجهة بالفعل ضد تركيا، إلا أنها تستخدم أيضاً لنقل رسالة دولية، مثلما حدث في مطار بروكسل.
لم يكن هذا حال تركيا منذ ثمانية أشهر فقط. وقتها كان ينظر لها كمن تتعاون مع داعش. واتهم نائب وزير الدفاع الروسي أنطولي أنتونوف أردوغان بعد أسبوع من إسقاط الطائرة في نوفمبر 2015 بقوله “لدينا إثباتات على أن تركيا أسقطت طائراتنا لحماية داعش.. تركيا وكذلك أردوغان وأسرته، يستفيدون من تجارة النفط مع داعش”. رد أردوغان متعهداً “سوف أستقيل من منصبي حال قدمت روسيا دليلاً على هذا الكلام“.
علاوة على تبادل اللكمات اللفظية هذه، أضافت روسيا فوراً عقوبات اقتصادية، من أصعب ما عرفتها تركيا. خسر عمال أتراك في روسيا تصاريح عملهم، واضطرت شركات تركية لتقليص مستوى نشاطهم في روسيا، وجرى احتجاز الخضر والفواكه على الحدود وكانت الضربة الأصعب في وقف السياحة الروسية لتركيا، ما تمخض عنه انهيار مئات الفنادق، والمطاعم والتجار الذين اعتمدوا في الحصول على أرزاقهم على نحو 5 مليون روسي سنوياً.
تحدث اتحاد مستثمري السياحة التركية قبل أسبوعين عن خسائر متوقعة بقيمة 15 مليار دولار عام 2016. هذه الأسباب كافية لتوضيح العجلة التي حركت أردوغان للاعتذار لبوتين وإرسال رسالة له لم يبد فيها أسفه واعتذاره فقط، بل أضاف كلمات دافئة عن الصداقة التركية – الروسية. لكن هذا ليس بسبب الاقتصاد فحسب.
أصبحت روسيا حليفاً للمتمردين الأكراد في سورية، الذين تتهمهم تركيا بالإرهاب والتعاون مع حزب العمال الكردستاني، المصنف كتنظيم إرهابي.
إمكانية توسع منطقة الجيب الكردي في سورية، وصولاً إلى خلق تواصل إقليمي يكون قاعدة لإقليم حكم ذاتي تحت حماية روسية، تقلق تركيا بشكل لا يقل عن الضرر الاقتصادي. وقد نجحت في إقناع واشنطن بعدم مساعدة المليشيات الكردية بشكل مباشر، لكنها لم تجر مع روسيا أي اتصال سياسي على مدى ثمانية شهور. اليوم فقط الأربعاء يتحدث أردوغان هاتفياً للمرة الأولى مع بوتين، وبعد أيام يلتقي وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو نظيره الروسي سيرجي لافروف في سوتشي.
الإشارة الواضحة على نية تركيا تغيير سياستها الخارجية جاءت بعد وقت قصير من تعيين بينالى يلدريم، المقرّب من أردوغان، رئيساً للوزراء، بعد الاستقالة المدوية لسابقه أحمد داوود أوغلو. صرح يلدريم أن تركيا تعتزم العودة لتكوين صداقات وتحسين علاقتها بدول المنطقة، بعدما أدخلت نفسها في عزلة غير محسوبة بالشرق الأوسط.
يعد داوود أوغلو الذي دخل في مواجهة مع أردوغان حول مسألة شكل النظام في تركيا واعترض على النظام الرئاسي– السلطاني، مهندس سياسة “صفر مشكلات مع الجيران”، التي انهارت بعد اندلاع الحرب في سورية، وهو الذي بلور معاهدة اللاجئين مع الاتحاد الأوروبي ويعتبر المهندس العاقل للسياسة الخارجية، مقابل أردوغان غير المتوقع.
يمكن التكهن أن رغبة أردوغان في تقديم دفعة ليلدريم، وأن يضع نفسه في موقع الزعيم الذي سيعيد تركيا إلى موقعها “الطبيعي” كقوة إقليمية، تلعب الآن دوراً رئيساً في التحول السياسي. بذلك تحتاج تركيا لمنظومة علاقات سليمة ليس فقط مع إسرائيل، التي تملك تذكرة إدخال تركيا للساحة الفلسطينية أو غزة على الأقل. كذلك يتعين عليها توسيع علاقاتها مع الشرق الأوسط العربي، التي أبعدت منه على مدى سنوات.
الشرخ العميق مع مصر، الذي حدث في أعقاب الإطاحة برجل الإخوان المسلمين محمد مرسي، والاستيلاء على الحكم من قبل عدوهم، عبد الفتاح السيسي، جعل تركيا أيضاً مقاطعة في دول الخليج وتحديداً في السعودية.
لكن بوفاة الملك عبد الله وتتويج سلمان، حظيت تركيا بفرصة نادرة عندما قرر الأخير إنشاء التحالف السني ضد إيران وضم إليه تركيا كعضو شرف.
سعى الملك السعودي الذي زار تركيا إلى مصالحتها مع مصر وإقناع أردوغان بالاعتراف بالسيسي كرئيس شرعي، لكنه فشل. ربما يتوقع الآن في أعقاب المصالحة مع إسرائيل وروسيا أن يغير أردوغان اتجاهه أيضاً فيما يتعلق بمصر، التي يمكن أن تُستغل كجسر تجاري حيوي بين تركيا وإفريقيا. انهار هذا الجسر بشكل صاخب عندما ألغت مصر معظم الاتفاقات التجارية مع تركيا وصنفتها كدولة معادية – إلى أن طلب السيسي من إسرائيل توضيحات حول المصالحة مع تركيا وتعهدات بألا يأتي ذلك على حساب مصر.
لا تقف دول المنطقة فقط في بؤرة سياسة أردوغان الجديدة. فالتغيرات المتوقعة في الاتحاد الأوروبي بعد انفصال بريطانيا، والمفاوضات الجارية بكسل شديد بشأن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، والمطالب الأوروبية بتغيير قانون الإرهاب شديد القسوة وضمان حرية التعبير كشروط لإلغاء نظام التأشيرات للمواطنين الأتراك – كل هذا يغضب أردوغان ويشجعه على إعادة بناء دائرة الدول الصديقة لتركيا.
استئناف العلاقات مع روسيا، التي تزود تركيا بأكثر من نصف استهلالكها من الغاز، ومع إسرائيل، التي من شأنها تقليل اعتماد تركيا على روسيا وإيران، يمكن أن تمنح تركيا الوزن الإقليمي الذي تحتاجه كي توضح للاتحاد الأوروبي أنها ليست مرهونة بالعلاقة معه، وليست دولة معزولة وأن بإمكانها العودة لتكون لاعباً فاعلاً على الساحة الإقليمية، التي أخفقت فيها مرة تلو الأخرى.