هل تعني شمولية الإسلام أن يلتزم الداعية بممارسة هذه الشمولية في كل شئون حياته؟
وهل هناك من الدعاة من يستطيع القيام بذلك حق القيام مع الحفاظ على حقوق أسرته وأهله؟
وما آثار ذلك على الدعوة؟
وما واجب الجماعة الدعوية تجاه هذه الشمولية؟
وهل الأفضل أن تتخصص الجماعة كحركة دعوية في مجال معين، أم الأفضل أن تكون الدعوة أو الحركة في مجموعها شاملة مع كفالة التخصص لكل فرد على حدة فيما يحسنه ويتقنه لننتهي في النهاية بمجموعة تخصصات تحقق لنا الشمولية على مستوى الدعوة أو الحركة؟
هذه بعض التساؤلات التي تطرح نفسها بين يدي الحديث عن الشمولية الدعوية، وما تزخر به الساحة الدعوية من تجارب فردية وجماعية، وخاصة أن الواقع المعاش ينحو منحى التخصص في كل المجالات.
وفي البداية لا بد من تقرير حقيقة مسلمة تقضي بأن الإسلام نظام شامل ينتظم كل مناحي الحياة، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89)، فهو يجمع بين الدنيا والآخرة، بين الروحانية والمادية، بين الواقعية والمثالية، وهو يدير شئون الفرد وشئون الأسرة وشئون المجتمع، كما أنه نظام سياسي، ومنظومة اجتماعية، ومؤسسة اقتصادية، كما أنه قبل كل هذا صلة بين العبد وربه، يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام/162).
ولقد تعددت المحاولات لتفريغ الإسلام من هذه الميزة الكبرى التي تعد مصدر الحياة والانتشار له، واختلفت الأغراض من وراء هذه الحملات؛ فمنها ما كان مقصده خالصا وسليما ولكن كان عنده عوار في الفهم، فتصور الإسلام على أنه عبادة بين جدران المحراب فقط، ومنها ما كان عن سوء نية وخبث طوية، فجاءت محاولات من أعداء الدين الذين سعوا إلى تفكيك الإسلام وتجزئته، فهم يريدونه دينا لاهوتيا محصورا في ضمير الفرد فقط، ويريدونه عقيدة بلا شريعة، أو عبادة بلا معاملات. ونظرا لخطورة الأمر أصبح حريا بالدعاة إلى الله تعالى أن يعوا هذه الدسائس جيدا، وأن يكونوا على بصيرة من أمرهم وهدى من ربهم، فلا تغيب عن عقيدتهم شمولية الإسلام وانتظامه كل مظاهر الحياة كما أراده الله رب العالمين.
بين الإيمان والتطبيق
المطلوب من الداعية أن يعتقد بشمولية الإسلام، ويؤمن بها إيمانا لا يتزحزح كالجبال الرواسي، ويسير بهذه العقيدة ينير بها طريق دعوته على هدى من ربه.
لكن المطلوب في هذا الجانب هو الاعتقاد والإيمان فقط وليس الممارس، فبعض الدعاة يحاولون الجمع بين كل ألوان الدعوة، فهو في المسجد يخطب، وفي السياسة يشترك، وفي الأعمال الاجتماعية يتواجد، وفي الثقافة يكتب… وهكذا، محاولا أن يكون داعية (سوبرمان). والحق أن هذا الداعية مأجور على نيته إن أخلص فيها لله تعالى، ولكن يبقى محل نظر من ناحية تأثيره الدعوي؛ ذلك أن الدعوة فن، وتحتاج إلى فنّان متخصص في أحد ألوانها؛ لأن أثر تشتيت طاقات الداعية يكون سلبيا على الدعوة وعلى الداعية. لكن ربما يملك البعض شمولية التأليف والكتابة في مختلف المجالات الدعوية، وهذا لا ضير فيه؛ فكم من الدعاة برزوا في هذا، ولا حرج على فضل الله تعالى.
والتخصص الدعوي هو منهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم رغم همتهم العالية وإيمانهم المتوهج المستمد حرارته من الوحي الغض المباشر من رب السماوات… كان لكل منهم تخصصه الذي يجيده وفنه الذي يبرز فيه.
فها هو خالد بن الوليد يحصد رقاب الأعداء في ساحة الوغى، وها هو حسان بن ثابت يبز الشعراء وينافح عن دعوته بلسانه، وهاهو أبو هريرة يلازم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وينبغ في حفظ أقواله ورواية أحاديثه، حتى وصلت إلينا الدعوة في صورتها النهائية متكاملة شاملة لكل التخصصات والفنون، فجاءت كعروس الحسن في أبهى حلة.
وها هو المعلم الأعظم يقر هذا الواقع ويباركه؛ فقد روي عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم-: “أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاء عُثْمَانُ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيٌّ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ ابْنُ الْجَرَّاحِ”.
واجبات تجاه الشمولية
وإزاء هذا الأمر فإن دور الداعية تجاه شمولية الدعوة يمكن أن يتحدد في النقاط الآتية:
– الإيمان الجازم والاعتقاد الراسخ بأن الإسلام دين يشمل كل مناحي الحياة.
– تبصير الناس وتعريفهم بهذه الشمولية، وتوضيح كيفية ترجمتها إلى سلوكيات في حياة الناس.
– إنزال هذا الفهم والاعتقاد على الواقع المعيش، إذ يراعي الداعية حكم الإسلام ومقاصده في كل مناحي حياته، فتكون الشمولية نموذجا مجسدا فيه.
– معرفة الأغراض المضادة والمتآمرة على الإسلام بحصره في زاوية ضيقة، وتبصير الناس بمخاطرها.
– ربما تكون هناك استثناءات يشارك فيها الداعية في مجال غير مجاله الدعوي، مثل بعض الأعمال العامة التي تحتاج إلى تعبئة وحشد.
لا للداعية “السوبرمان”
إن الداعية الذي يتصدى لكل المهام الدعوية، ويريد أن يمارس كل صنوف الدعوة، ويكون له نصيب في كل نشاط دعوي يجني على نفسه ودعوته – من حيث لا يدري – الكثير من الأضرار والنتائج السلبية مثل:
– تعرضه للعُجب بالنفس، وتسلل الرياء لقلبه من دون أن يشعر.
– تأثر الجانب الإيماني لديه، وتضييع حق ربه عليه؛ بسبب كثرة انشغالاته ومواعيده الإدارية.
– تشتته بين الأنواع الدعوية المختلفة وعدم إتقانه أيا منها؛ وهو ما يظهر دعوته بصورة شائنة شائهة.
– إضاعة الكثير من الثمار التي كانت ستجنيها الدعوة لو أنه ركّز في تخصصه الذي يجيده، فمثلا كم من علماء أجلاء ومفكرين فضلاء ضاع جهدهم وفكرهم بانشغالهم ببعض الأمور السياسية مثلا، أو الأعمال العامة.
– إنفاقه الكثير من الجهد والوقت للقيام بكل هذه المهام؛ وهو ما يكون له أثره على نفسه، فربما يصاب بالفتور، وعلى أسرته، فهو حتما سيضيع حقهم عليه؛ فالمنبت لا أرضا قطع (تحقيق الهدف) ولا ظهرا (جسمه وأهله) أبقى.
– عدم مقدرته على تنمية ذاته فكريا وحركيا ومهاريا، واعتماده على مخزونه القديم الذي هو حتما عرضة للنفاد.
– سدّ الباب على الآخرين؛ فربما يضيع الفرصة على من هو أكفأ منه في مكان معين، وأيضا يضيع الفرصة على تخريج كوادر جديدة في مختلف التخصصات الدعوية.
بين الشمولية والتخصص
وإذا كان هذا فيما يخص الفرد، فإن للجماعة شأنا آخر، فمن الضروري في هذا الجانب الحديث عن جدوى شمولية الجماعة، وخاصة في الممارسة… فهل الأفضل للجماعات الإسلامية العاملة في الساحة أن تحرص على شمولية الدعوة والممارسة، أم تكتفي بالتخصص الدعوي؛ فتتخصص كل جماعة في جانب معين تجيده وتتقنه؟
كان من المنتظر أن يكون هناك تنسيق وتكامل بين الجماعات العاملة في الساحة الدعوية، ولكن الواقع غير ذلك؛ فبعض الجماعات ترى في محاربتها البدع والاهتمام بالعقيدة فقط هو كل الدعوة، بل تعيب على غيرها إدخالها السياسة مثلا في العمل الدعوي، وبعض الجماعات ترى في الجانب الخدمي والاجتماعي فقط هو كل الدعوة، وبعضها يرى أن الدعوة لا تخرج عن جدران المسجد، فيكفي أن تأتي بالناس للصلاة فقط. وإزاء هذه الخريطة المتنوعة تميل النفس إلى أهمية اعتماد الجماعة الاعتقاد بالشمولية دعوة وإيمانا وممارسة بالطرق المشروعة؛ فتحرص على توظيف كل مجموعة أفراد فيما يجيدون، فهؤلاء يكوِّنون حزبا سياسيا، وهؤلاء يكوِّنون مؤسسة اقتصادية، وهؤلاء يكوِّنون مؤسسة اجتماعية خدمية، وهؤلاء يكوِّنون مؤسسة تعليمية. وكل هؤلاء يكون القاسم المشترك بينهم هو الدعوة إلى الله تعالى، وإبراز قدرة الإسلام على قيادة سفينة الحياة إلى شاطئ الأمان والاستقرار.
– وتبرز أهمية شمولية الدعوة والممارسة لدى الجماعة فيما يلي: لا ينكر عاقل أن الإسلام دين شامل يستوعب كل مناحي الحياة، وأن هذا ما سار عليه الرسول الكريم (ص) وصحابته من بعده، وأن ترك أي جانب من هذه الجوانب سيظهر الإسلام مشوها منقوصا لا يصمد أمام الهجمات الداعية إلى تنحيته وحصره في المساجد فقط، وبذلك تصبح الشمولية الدعوية فريضة شرعية.
المجتمع بطبعه متشابك ومتداخل ومعقد؛ ولذلك فهو في حاجة إلى ما يقابل هذه التعقيدات والتشابكات وينظمها في عقد دعوي يجد لكل مشكلة حلا ويلتمس لكل آفة علاجا من كتاب الله وسنة رسوله، وحبذا لو كان هذا العلاج واقعا ملموسا ممارسا وليس مجرد إبانة فقط، وبذلك تصبح ممارسة الشمولية الدعوية ضرورة واقعية.
ما ذكرناه من عدم التنسيق بين الجماعات وانفراد كل جماعة بجزئية دعوية معينة، وإنكارها على الباقين ما هم فيه، فلو تخصصت كل جماعة وأقرت للجماعات الأخرى ما هم عليه لجاز ذلك.
تختلف ميول الأفراد ومواهبهم الدعوية؛ فلو أن جماعة من الجماعات اكتفت بجانب واحد من الدعوة لعطلت الكثير من الطاقات المتنوعة في أفرادها؛ فممارسة الشمولية الدعوية تستوعب كل هذه الطاقات والإمكانات.
هناك بعض التخصصات الدعوية التي هي مناط النقاش بين الناس ضرورية للحفاظ على الدعوة واستمرارها، فالممارسة السياسية أحيانا تكون سياجا لباقي التخصصات الدعوية الأخرى كنشر الدعوة والخدمات الاجتماعية وغيرها.
والخلاصة أنه حتى تؤتي الدعوة ثمارها المرجوة في هذا الزمن الذي يؤمن بالتخصص ويسعى إليه، على الداعية أن يتخصص في لون دعوي يجيده ويتقنه، مكونا مع إخوانه من باقي الدعاة حديقة غناء، غنية بالزهور الشذية العطرة التي يفوح عطرها فيملأ الدنيا عبقا وعبيرا، فتتحقق بذلك شمولية الدعوة ممارسة بمجموع المجتمع عبر تخصص الأفراد المتنوعة والمتكاملة.
—–
* نشر في عام 2007 في موقع إسلام أون لاين في نسخته القديمة.