حدود الحرية لدى الشباب في زمن التحوُّل الرقمي
في
عصر التحوُّل الرقمي والعوالم الافتراضية، باتت نزعة الشباب نحو الحرية بمفهومها
الجديد تتجاوز حدود المكان والجغرافيا، والأعراف والقيم، فهناك منابر للتعبير
ومنصَّات للتواصل تمنحهم الفرصة لكسر القيود التقليدية، والتعبير عن آرائهم
وهوياتهم بحرية واسعة.
وما
بين هذا النمط من «الاستقلال الرقمي» وهواجس الأهل والمجتمع من الانفلات الأخلاقي،
تتشكَّل علاقة معقَّدة بين الحرية والرقابة، تستدعي فهمًا جديدًا لمفهوم
«المسؤولية الرقمية»، وكيفية ممارستها، ودور الأسرة والمجتمع والتشريعات القانونية
في توجيهها.
و«الحرية
الرقمية» لم تعد مقتصرة على التعبير فقط، بل على التأثير في الآخرين، فبات للشباب
القدرة على تحريك الرأي العام، وإطلاق الحملات، وكشف الفساد، ودعم القضايا
الإنسانية، بما يسهم في إحداث تغيير مجتمعي. كما لم يعد الشباب بحاجة إلى وسطاء
تقليديين كالإعلام أو المؤسسات السياسية، بل أصبح بإمكانه التعبير عن رأيه، وإبداء
نقده، والدفاع عن أو معارضة قضية ما بضغطة زر.
وهذا ما يجعل بعضهم يخلطون بين الحرية والتمرد، وقد غذَّى الفضاء الرقمي لديهم نزعة الظهور والتحرر من قيود القانون والأخلاق، ونسوا أن هذه الحرية موسَّعة لكنها مقيَّدة في الوقت ذاته.
الرقابة الأسرية وردم الفجوة بين الأجيال:
التحكُّم
الكامل في حرية الأبناء الرقمية وهمٌ لا يتحقق، لكن يمكن الاستعانة بأدوات حماية
وتوجيه، في عالم مفتوح لا نهاية لشطآنه. لا يمكن للآباء أن يمنعوا أبناءهم من
الدخول إلى الفضاء الرقمي، لكن يمكنهم:
• تثقيف الأبناء رقميًّا: وتعليمهم مهارات
التمييز بين النافع والضار، والخطأ والصواب، وتوضيح حدود الحرية، وكيف يحمي
بياناته.
• القدوة الرقمية الوالدية مهمة في ضبط سلوك
الأبناء: حتى لو خلت من الوعظ والكلام.
• زرع الثقة في نفوس الأبناء: بالانفتاح
والحوار، ومشاركتهم في استخدام التكنولوجيا، وإقامة علاقة صحية معهم تُغني عن
الرقابة الصارمة وفرض السيطرة.
• استخدام تطبيقات للرقابة: بشرط أن يكون ذلك
محسوبًا، ويُنفذ بحذر، وأن يكون مؤقتًا، وهدفه الحماية لا التجسس والعقاب.
وتبقى
هذه التوجيهات نظرية ما لم يتم ردم الفجوة بين الأجيال في استخدام التكنولوجيا؛
لضمان تواصل فعَّال وسليم في ظل عالم يتغير كل لحظة.
غالبًا ما يرى جيل الكبار هذه التكنولوجيا أداة معقدة تتطلب مجهودًا لتعلمها، في حين يتعامل معها الشباب بسلاسة تامة كونه نشأ في بيئة رقمية. كثير من الآباء يجهلون التعامل مع تطبيقات وسائل التواصل وتوليدات الذكاء الاصطناعي، وهؤلاء سيجدون صعوبة في التعامل مع أبنائهم، وفي تقييم المخاطر الرقمية التي يتعرضون لها، ما لم ينالوا قسطًا من التثقيف الرقمي المنهجي.
الرقابة المجتمعية.. بين الانفتاح والوصاية:
ما
بين الانفتاح الرقمي والوصاية الاجتماعية، تعيش مجتمعات اليوم حالة من الصراع من
أجل الحفاظ على القيم والضوابط التقليدية، وتتباين نظرة المجتمع للحرية بحسب
العوامل السياسية والثقافية والدينية، وبحسب موقع الأجيال في التحوُّل الرقمي. وفي
المجتمعات العربية تسود نظرة تميل إلى الوصاية الأخلاقية على المستخدمين من
الشباب؛ خشية انفتاح الباب أمام محتوى غير أخلاقي، أو أفكار مغايرة للثقافة
السائدة بما يهدد النسيج المجتمعي. إلا أن هذا التوجه يثير جدلًا بين المهتمين،
ومنهم من يدعو إلى نهج «التربية الرقمية» بدلًا من الوصاية، عبر ما أسموه «الرقابة
الناعمة».
ولا
تعتمد «الرقابة الناعمة» على القمع أو المنع الصريح، بل على التأثير الثقافي
والاجتماعي والتربوي، كالضغط الاجتماعي على المستخدم لتعديل سلوكه قبل أن يفقد
قبوله الاجتماعي، وبالحثِّ على التزام الضوابط الثقافية والدينية، وأن يكون الشاب
رقيبًا على نفسه، حريصًا على سمعته أمام مجتمعه.
وتلعب الشخصيات المؤثرة، سواء المعلمون أو قادة الرأي وحتى المؤثرون الرقميون، دورًا مهمًّا في تشكيل الوعي بما هو «مقبول» أو «غير مقبول». كما تشكِّل بيئة «الإنترنت» نفسها رقيبًا ناعمًا، من خلال التعليقات والإعجابات، أو الهجوم اللفظي، بما يسهم في تعديل سلوك المستخدم.
قوانين وتشريعات:
الواقع
الافتراضي يؤكد أن الشباب يشكِّلون القوة الرقمية الأكبر في مجتمعاتنا؛ ما يتطلب
قوانين منظمة لاستخدام «الإنترنت»، لا لتكون قيدًا على حرية المستخدمين، ولكن
كأدوات حماية للفرد والمجتمع، حيث تتقاطع حرية التعبير والخصوصية مع ضرورات الأمن
العام ومكافحة الجرائم الإلكترونية. ولا تعارض بين حماية المجتمع وضمان الحريات
إذا تم الأمر في إطار من العدالة والتوازن، فالفضاء الرقمي ليس فوضى بلا حدود،
لكنه أيضًا ينبغي ألا يكون «سجنًا رقميًّا» بدعوى الحماية. توجد قوانين محلية
ودولية تنظِّم المحتوى الرقمي، وهناك العديد من الدول تفرض رقابة على «الإنترنت»،
وتحدد ما يمكن وما لا يمكن نشره، والمنصات نفسها تفرض شروط استخدام وسياسات
المحتوى، وتحذف وتقيِّد وتعاقب من لا يلتزم بهذه الشروط.
«المسؤولية الرقمية» واستنهاض الوعي الذاتي
للشباب:
في
المجتمعات السليمة لا يمكن فصل الحرية عن «المسؤولية الرقمية»، القائمة على وعي
الأفراد بأدوارهم الإيجابية وأثرهم النافع في هذا الفضاء الواسع. و«المسؤولية
الرقمية» تعني استخدام الوسائط الرقمية والتكنولوجية بطريقة واعية وأخلاقية، تتسم
باحترام الآخرين، وتراعي القوانين والأعراف الاجتماعية، وتشمل: احترام خصوصية
الآخرين، وتحري المعلومة قبل نشرها، ومكافحة خطاب الكراهية، والالتزام بحماية
البيانات الشخصية من الاختراق أو الاستغلال.
ودون
هذا الوعي، ودون الرقابة الأسرية والقانونية والمجتمعية، تتحول «الحرية الرقمية»
إلى إدمان على المحتوى الضار أو غير الأخلاقي.
وفي
عالم أصبح فيه الواقع الرقمي جزءًا لا يتجزأ من حياة الناس، تظل «التربية الرقمية»
أحد أهم ركائز التنشئة السليمة للأجيال، ويغدو الاستثمار فيها استثمارًا في وعي
الأمة ومستقبلها، وفي إعداد جيل قادر على حماية نفسه، وتوظيف التكنولوجيا بما يخدم
نموه وتطوره، وفي تنشئة «مواطن رقمي»، يعي حقوقه وواجباته، ويتفاعل بإيجابية مع
المحيطين به.