المساواة في الميراث.. الحجج والحجج المضادة

لا تكاد دعاوى المساواة في الميراث تخبو
في بلد حتى يتجدد طرحها في بلد آخر باعتبارها واحدة من أكثر القضايا جدلاً
واستقطاباً في العالم العربي.
والجدل بشأن الميراث قديم إذ ترجع جذوره
إلى حقبة العشرينيات من القرن الماضي، وهي الحقبة التي شهدت تشكل التيارات الفكرية
المعاصرة التي خاضت معارك الحجاب والخلافة والحد من التعدد والطلاق، وعلى أثرها
طرحت قضية المساواة في الميراث باعتبارها فرعاً من القضية الأصلية قضية المساواة
بين الجنسين، وبينما حسمت قضايا الحجاب والخلافة ظلت قضية المساواة دون حسم إلى
يومنا هذا تحت مسميات مختلفة.
خلال هذا الجدل، تشكلت وجهتا نظر؛ إحداهما
تؤيد المساواة ويتبناها الحداثيون، والأخرى ترفضها ويتبناها الإسلاميون، ويتخذ كل
منهما حججاً لدعم موقفه، بعضها حجج قديمة يجري توظيفها وإعادة صياغتها لتصبح
ملائمة لروح العصر، وأخرى جديدة تفرضها المتغيرات في السياق الاجتماعي المحلي
والسياق العولمي، هذه الحجج ظلت في إطار النقاش إلا أنها كادت أن تصبح أساساً
للتشريع في حالة تونس (2018م) غير أن وفاة الرئيس قايد السبسي حالت دون ذلك، غير
أن محاولات أخرى تجري في مصر وتونس والمغرب لجعلها أساساً للتشريع.
وفيما يلي نعرض باقتضاب لحجج المؤيدين
للمساواة:
حجج المجيزين
يتبني فريق القائلين بجواز المساواة الذي
يتألف من بعض الحداثيين بضع حجج، أهمها:
1- تاريخية النص التشريعي؛ الأساس الذي
بُني عليه القول بالمساواة تاريخية نصوص الأحكام؛ بمعنى أن فهم التشريعات لا يصح
إلا في السياق الاجتماعي والتاريخي الذي نزلت فيه إذ تظل مرتهنة بهذا السياق، فإذا
تغير السياق وجب أن تتغير الأحكام، وعليه كانت المرأة في عصر ترث نصف الرجل لأنها
لم تكن ترث في الجاهلية أصلاً، ولما أتي القرآن بالإرث كان يخاطب مجتمعاً كانت
السيادة فيه للرجل، ولم يكن المجتمع ليقبل بأكثر من ذلك.
2- تدرج أحكام المواريث، وهي فرع عن
التاريخية، إذ يتم التعلل بمسألة كون تشريعات الميراث لم تنزل جملة واحدة وإنما
على مراحل، فأول ما نزل كان الوصية حين الموت، ثم صار التنصيص على توريث النساء،
ثم حددت أنصبة كل وارث؛ وهو ما يعني أن الغاية تعليم الناس منهجية التكيف مع
الواقع، فالتدرج في الأحكام مؤشر على أنه لتعليم الناس أدوات التفكر والنظر لتكييف
الأحكام حسب الظروف الاجتماعية الطارئة، بما يعني أن كثيراً من الأحكام إنما هي
بمثابة نماذج عملية ودروس تطبيقية للاقتداء بها، وليس للتقيد بها، كما يعتقد محمد
بن جماعة.
3- إعادة قراءة آيات المواريث، وهي تتخذ
مظهرين؛ أحدهما الادعاء أن آيات المواريث ليس لها صفة تعبدية، فهي آيات تتعلق
بالبناء الاجتماعي الذي يتغير بالضرورة وينتج عن تغيره تغير الأحكام المتعلقة به
ومنها المواريث.
والثاني اعتماد مقاربة لغوية للآية، وهي
مقاربة محمد شحرور التي ترى أن الآية ذات صلة بالوصية وليس الإرث، وتعني أن نصيب
الذكر يتساوى مع نصيب الأنثى، وأن الفقهاء الذين أجمعوا على أن الذكر يرث ضعف
الأنثى قد أخطؤوا؛ لأن ذلك المعنى لا يستقيم إلا لو كان نص الآية «للذكر ضعف حظ
الأنثى»، وهو ما لم يرد إطلاقاً.
4- المساواة الإنسانية، مبدأ المساواة
مبدأ رئيس من مبادئ دولة المواطنة وتدعمه المؤسسات والاتفاقات الدولية، وهذا
المبدأ يفترض التسوية التامة بين الرجال والنساء دون تمييز، وعليه ينبغي أن تترجم
القوانين المحلية هذا المبدأ ولا يسمح بأي قانون يخالفه حتى وإن كان مستمداً من
الشريعة.
وإضافة إلى هذه الحجج، ثمة حجج أخرى من
قبيل الادعاء أن القوانين في بلاد المسلمين كلها تغيرت ولم تثر اعتراضاً عدا
الأحوال الشخصية، فلمَ لا يتم تغييرها هي الأخرى، ومنها أن أعداداً متزايدة من
المسلمين تلتف على نظام المواريث فيقدم الأب على توزيع ثروته والتبرع بها في حياته
تجنباً للخضوع لها.
حجج المانعين
اجتهد المعارضون للمساواة وهم فريق يضم
علماء شريعة وكتَّاباً وأدباء وناشطين في صياغة حجج تبين أولاً حكمة نظام المواريث
في الشريعة، وتدحض ثانياً شبهات فريق المجيزين، وتتلخص هذه الحجج في التالي:
1- بيان جوهر نظام المواريث، يقول محمد
صادق الرافعي، وهو من أوائل من تصدى لدعوى المساواة: إن ميراث الأنثى في الشريعة
الإسلامية لم يُقصد لذاته، بل هو مرتب على نظام الزواج فيها، وهو كعملية الطرح بعد
عملية الجمع لإخراج نتيجة صحيحة من العملين معاً، فإذا وجب للمرأة أن تأخذ من
ناحية وجب عليها أن تدع من ناحية تقابلها، وهو يوضح ذلك بأن للمرأة حقاً في مال
زوجها وليس للرجل هذا الحق في مال زوجه، فإن هي ساوت أخاها في الميراث مع هذه
الميزة التي انفردت بها انعدمت المساواة في الحقيقة، فتزيد وينقص؛ إذ لها حق
الميراث وحق النفقة وليس له إلا مثل حقها في الميراث إذا تساويا.
2- رفض دعوى التاريخية، يرفض المانعون
دعوى التاريخية ويرون فيها نزعاً لقداسة النص القرآني وكونه مطلقاً من جهة الزمان
والمكان، وغايتها إضفاء الصفة البشرية عليه من خلال الزعم أنه نشأ في بيئة تاريخية
معينة وتأثر بها وبالتالي لم تعد أحكامه ملزمة في عصرنا.
3- العدل لا المساواة، يرى هذا الفريق أن
الإسلام أقر بالمساواة في مسألتين جوهريتين، المساواة في أصل الخلقة والنشأة كما
في الحديث: «الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب»، والمساواة في الخطاب والتكليف،
وفي المقابل أقر الإسلام بعدم المساواة في بعض الحالات كقوله تعالى: (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن
كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ) (السجدة: 18)، ويفهم من ذلك أن الأحكام
تؤسس على العدل لا المساواة؛ لأن المساواة قد تفضي إلى المساواة بين شيئين تقتضي
الحكمة التفريق بينهما.
من جهة أخرى، ليست المساواة مناطاً للإرث
ولا سبباً لتحديد درجات الوارثين كما تقرر الشريعة، ولكن مقتضى المساواة أن يسوي
الوالدان في النفقة بين أبنائهما ذكوراً وإناثاً فيما تتساوى حاجتهم فيه كالملبس
والمطعم وخلافه.
4- المساس بالمواريث مساس بتشريعات
الأسرة، وهي حجة أخرى يتبناها فريق المنع الذي يحذر من أن المساس بالمواريث والقول
بالمساواة يقتضي بالضرورة إخلالاً بتشريعات الأسرة كلها ابتداء من الصداق وحتى
النفقة، وعندئذ لا يغدو الرجل ملزماً بواجباته الشرعية تجاه زوجه وأسرته، وهو غرم
لا تستطيع الفقيرات تحمله.
5- التصرف الفردي لا ينشئ حكماً شرعياً،
وهي الحجة التي تبنتها دار الإفتاء المصرية معتبرة أن تصرف آحاد الأفراد في
ثرواتهم بالتبرع حال حياتهم لا ينشئ حكماً تشريعياً ملزماً، إذ لا يجوز الخلط بين
التصرف الفردي والتشريع الإلزامي.
خلاصة ما تقدم، إن هناك جدلاً محتدماً
حول المواريث في العالم الإسلامي تطرح خلاله حجج متباينة، ورغم هذا تظل حقيقة أن
مطلب المساواة لم يكن قط مطلباً شعبياً، وإنما هو مطلب نخبوي تبنته النخب الحداثية
وعمدت إلى فرضه عنوة.
اقرأ أيضاً: