غزة.. ندبة في ضمير الإنسانية والأمة الإسلامية

الحرب على غزة: حرب إبادة تتجاوز حدود الصراع السياسي

يُشكّل الوضع الراهن في قطاع غزة جرحًا عميقًا في ضمير الإنسانية جمعاء، ووصمة عار على جبين الأمة الإسلامية والعربية التي تقف في معظمها موقف المتفرج، تتكشف المأساة الإنسانية يومًا بعد يوم، وتتعمق المعاناة في ظل استمرار العدوان وسياسات التجويع الممنهج التي تُمارس بحق المدنيين العزل.

إن ما تشهده غزة هو أكثر من مجرد صراع سياسي؛ إنه حرب إبادة، ما يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، فالصمت الدولي تجاه ما يحدث في غزة، يكشف عن ازدواجية في المعايير وتخاذل المؤسسات المعنية عن أداء دورها، هذا الصمت بمثابة منح المحتل تفويضًا مطلقًا لمواصلة ما وصفه إضعاف إرادة المقاومة عن طريق تجويع السكان.

التجويع الممنهج.. جريمة ضد الإنسانية

تُعد سياسة التجويع الممنهج التي تفرضها «إسرائيل»، التي تحول فيها الخبز إلى سلاح، جريمة حرب بموجب القانون الدولي، ومخالفة للمادة (51) من اتفاقية جنيف 1949م التي تنص على تمتع السكان المدنيين بالحماية ضد الأخطار، وتحظر أعمال العنف أو التهديد، والمادة (54) حيث يُحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب.

وتتجسد هذه السياسة في الحصار الشامل للقطاع، وتعطيل دخول الإمدادات الحيوية؛ ما أدى إلى نقص حاد في الغذاء والماء والدواء والوقود، ووضع القطاع على شفا المجاعة، بهدف إضعاف السكان وإجبارهم على النزوح أو الاستسلام.

هذه السياسة تُظهر تحولاً خطيرًا من الصراع العسكري إلى إبادة ممنهجة للسكان المدنيين؛ حيث يُحرم آلاف الفلسطينيين من أبسط مقومات الحياة؛ ما يؤدي إلى تدهور شديد في الأوضاع الصحية، خاصة بين الأطفال والنساء وكبار السن.

وقد أدانت منظمات حقوقية دولية، مثل «هيومن رايتس ووتش»، والأمم المتحدة، استخدام «إسرائيل» التجويع كأسلوب حرب، واصفة إياه بـ«جريمة ضد الإنسانية».

كما أعلنت الأمم المتحدة أنه في 3 أشهر فقط استشهد نحو 1500 فلسطيني خلال انتظار المساعدات منذ مايو 2025م وحتى مطلع أغسطس نفس العام، ومع ذلك لا تزال قوات الاحتلال تمنع نحو 22 ألف شاحنة مساعدات من دخول غزة، كما يمنع المستوطنون قوافل المساعدات من الدخول إلى القطاع، وقد حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) من أن أطفال غزة يموتون بمعدلات غير مسبوق بسبب المجاعة، وتدهور الأوضاع الناتجة عن العدوان «الإسرائيلي» المتواصل.

صمت المجتمع الدولي.. ازدواجية معايير وتقاعس مؤسسي

على الرغم من فظاعة الصور والأحداث التي تُمَثِّل كارثة إنسانية غير مسبوقة، بتصاعد عدد الشهداء إلى أكثر من 62 ألف شهيد، منذ 7 أكتوبر 2023 إلى أغسطس 2025م، وما يزيد على 159 ألف جريح لنفس الفترة طبقًا لإحصاءات المرصد الإعلامي لمنظمة التعاون الإسلامي، لا تزال المجتمعات الدولية بقياداتها ومؤسساتها تصمُّ آذانها عن صرخات غزة، وترصد تقاعسًا مخجلاً تجاه الجرائم المرتكبة.

فالقوى الكبرى بالرغم من الخسائر البشرية المروعة بين المدنيين، والدمار الذي حل بالقطاع، لا يزال أغلبها مستمراً في صمته، إلا من بعض المبادرات كبيان بريطانيا في يوليو الماضي بالمشاركة مع نحو 24 دولة أوروبية دعت فيه إلى الإنهاء الفوري للحرب على قطاع غزة، ورفض التهجير القسري في الأراضي المحتلة، وطالبت «إسرائيل» برفع القيود عن تدفق المساعدات إلى القطاع، واصفة طريقة توزيع المساعدات (الذي وضعته الحكومة «الإسرائيلية») بحرمان أهالي غزة من الكرامة الإنسانية، وأن معاناة المدنيين في غزة وصلت إلى مستويات غير مسبوقة.

أما المنظمات الدولية، بما فيها مجلس الأمن والأمم المتحدة، غالبًا ما تتنصل من مسؤولياتها، دون تفعيل آليات مساءلة حقيقية، وتكتفي بإدانات عامة أو بيانات إنسانية وربما أحيانًا تتخذ مواقف شبة محفوفة بالمحاباة، إما للانقسامات السياسية واستخدام حق «الفيتو»، أو الخضوع لضغوط سياسية، هذا النمط من الاستجابة يعكس ما وصفه بعض المراقبين بأنه تواطؤ بالصمت، إذ يسمح للمحتل بالمضي قدمًا في جرائمه ضد أبناء الشعب الفلسطيني، دون محاسبة أو رادع.

دور الدول الإسلامية.. مسؤولية تاريخية وواجب إنساني

وفي ظل هذا المشهد المأساوي، يبرز دور الأمة الإسلامية كواجب ديني وإنساني، في دعم صمود الفلسطينيين، ورفض السياسات «الإسرائيلية»، والعمل على توعية المجتمع الدولي بمأساة غزة، فبينما تتبنى منظمة التعاون الإسلامي خططًا لإعادة إعمار غزة، وتدعو إلى وقف فوري وغير مشروط للحرب، يرى البعض أن هذه المواقف لا تزال غير كافية، ومن ثم دعا ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع «ميدل إيست آي» البريطاني، الدول الإسلامية إلى مواجهة الغرب لوقف الحرب، مؤكدًا أن الوقت قد حان للتوقف عن ممارسة دور المتفرج.

فالدول الإسلامية تتحمل مسؤولية مضاعفة، بحكم الروابط الدينية والقومية، لدعم الفلسطينيين سياسيًا وإنسانًا، فهي مطالَبة بأن تتجاوز الشعارات، وأن تتخذ إجراءاتٍ فعلية، سواء بالتضامن الميداني، أو عبر تفعيل المؤسسات والمنظمات الإنسانية، وتوسيع الجسر الإنساني عبر مبادرات مشتركة بين الدول الإسلامية، كما يمكنها تجميد أو إعادة النظر في الاتفاقيات الاقتصادية مع الدول الداعمة للاحتلال، أو تفعيل الدبلوماسية الجماعية للضغط في المحافل الدولية على الحكومات الكبرى لتطبيق القرارات الدولية، ووقف سياسة التهديد والتجويع، وضمان حقوق الشعب الفلسطيني، ووقف جرائم الإبادة الجماعية، كي لا تتحول غزة إلى ندبةٍ طويلة الأمد في ضمير البشرية، تُذكرنا دائمًا بصمتٍ مريب، ويجب أن نعي أن استجابتنا لهذه المأساة تحدد مدى إنسانيتنا وضمير أمتنا.

في النهاية، يمثل الوضع الإنساني الراهن في قطاع غزة واحدة من أشد الأزمات المأساوية في التاريخ المعاصر، حيث يختلط المشهد بين مأساة إنسانية متفاقمة وصمت دولي مقلق؛ ما يضع المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي لمدى التزام العالم بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان.

وفي هذا السياق، فإن مواقف الدول والمنظمات الإسلامية (رغم الإدانات والدعوات) تظل بحاجة إلى تفعيل جاد وفعال على أرض الواقع لكسر دائرة التجويع والصمت، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا الجرح النازف في ضمير الإنسانية، ومنع استمرار هذه الجريمة التاريخية، وحفظ ما تبقى من قيم إنسانية مشتركة.

 

 


______________________

1- مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان (1977)، البروتوكول الإضافي الأول والمتعلق باتفاقيات جنيف المعقودة في 12 أغسطس 1949م والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات المسلحة الدولية.

2- منظمة التعاون الإسلامي. (2025)، إسرائيل تقترف 304749 جريمة في غزة والضفة الغربية منذ 7 أكتوبر الاحتلال يقتل ويجرح 5844 فلسطينيا في أسبوع:

https://new.oic-oci.org/SitePages/NewsDetailAR.aspx?Item=2930

3- يورونيوز (2025)، بيان مشترك لبريطانيا و24 دولة أخرى يطالب بإنهاء حرب غزة «فوراً»:

https://arabic.euronews.com/2025/07/21/joint-statement-by-britain-and-24-other-countries-calling-for-an-immediate-end-to-the-ga

4- David Hearst. (2024). Muslim nations must confront the West to lift Gaza siege. Middle East Eye. Reserved from: https://www.middleeasteye.net/opinion/war-gaza-arab-states-turkey-ceasefire-break-israel-siege

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة