من بات شبعان وجاره جائع.. غزة نموذجاً

من دقائق دين الإسلام العظيم أنه يدفع الإنسان لذُروة الإنسانية، وقمة تمثّلها للمحمود من الأخلاق والمسالك؛ أولم يبعث الله تعالى نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام لإتمام مكارم الأخلاق؟

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع»(1)؛ أي وهو يعلم أنه جائع، فنفى صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان لا الإنسانية عنه، وذلك لأنه أخلّ بما أحقته الشريعة من حق الجوار، وما يقتضيه الإيمان من الامتثال لذلك، فضلًا عن أن من يرضى أن ينام ملآن شبعان على جوع مَن بِجِواره وهو يعلم، مثل هذا المسلك يدل على قسوة القلب وشدّة الشحّ وسقوط المروءة، وهذه كلها أخلاق لا تليق بإيمان مؤمن ناهيك عن إنسانيته!


غزة.. مقياس إنسانيتنا! | مجلة المجتمع
غزة.. مقياس إنسانيتنا! | مجلة المجتمع
مجلة المجتمع الكويتية: منصة إعلامية رائدة تُعنى بالشأن الإسلامي وتقدم تقارير ومقالات تعزز الوعي الحضاري للأمة الإسلامية انطلاقاً من مرجعية إسلامية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهي تابعة لجمعية الإصلاح الاجتماعي بدولة الكويت، وترفع شعار "مجلة المسلمين حول العالم".
mugtama.com
×


فكيف بنا في أتون المحنة الدائرة اليوم في غزة خصيصًا، ونحن نشهد لا الجوع فحسب، بل شدة الضنك الذي يعايشه إخواننا ونحن في شبع وامتلاء وراحة وخصوصية، أو حتى في المعاركة المعتادة لشؤون المعاش، ونحن غير قادرين على دفع الجوع عنهم أو إيصال العون إليهم؟

إن هذا العجز لا ريب موجع لكل ذي قلب، ومُفجع لكل مؤمن، ويظل السؤال: ما الحل؟ والحق أن الموقف لم يعد يتحمّل مثل ذلك السؤال، الذي يقصر الجواب في حل بعينه، طالما لم يتأتّ ولا يقدر عليه الفرد المسلم، لم يعد أمامه إلا خياران؛ التعامي عن الحاصل، أو اتخاذ الغم بسببه عملًا، وكلا طرفي الخيار لا خير فيه.

وإذن، ما المطلوب؟ المطلوب المباشر هو أن يقوم كل بما يستطيعه في سياقه ولو بدا أنه لا يتصل بالحل بشكل مباشر.

وإننا إذا نظرنا إلى مجموع ما تعيشه الأمة اليوم من مغلوبية وتبعية في مختلف مناحي الحياة، فمردّه بالأساس إلى تراكم التربية الخائبة التي عايشتها أجيال من المسلمين على مدى قرون، وقد أثبت نهج التربية الإسلامية على مختلف تصوراته عبر قرون عقمه، إذ لم يُخَرِّج مسلمين مهيّئين للغَلَبة بأخذ زمام السيادة في الأرض وتعبيدها لله تعالى والشهادة على الأمم الأخرى، بل إن غاية ما أثمرته هو مسلمون مُرَقّعون بالأسلمة والتخليط، وهذان كانا سبب إصابة روح الأمة في مقتل وتنشئة أجيال بنفسية المغلوبية وعقلية التبعية للأمم الأخرى.

وإن رُمّانة كل ميزان صلاح ورأس كل إصلاح، لا قوام لأمة الإسلام بغيره، هو إجلال الحق الذي بَعثَ الله تعالى به النبي صلى الله عليه وسلم، وتكبّد عليه وأصحابه وسلف المسلمين ما تكبّدوا في سبيل خدمته وحفظه وإيصاله للعالمين، وشرّفنا الله تعالى بأن نكون من أهله، وأنعم علينا بالانتساب له، وإذن فأول خيوط النُّصرة الحقيقية التي بها تكون قَومة الأمة من رقدتها نصرة الله تعالى ودينه، كلُّ في نفسه وأهله أولًا قبل توزيع الشعارات ومطالبة الأمّة.

وأولى ما يجب أن يربيه فينا ما نشهده اليوم هو استحياء مكارم الأخلاق ومجاهدة شح النفس في كل سياق يُتاح لنا لا في السياقات التي تروق لنا فحسب! فالجوع ليس جوع البدن لانعدام الغذاء فحسب، بل جوع الروح كذلك لانعدام تربية التقوى فيها، ففي زمن الشكاوى والتحسرات والتفكير أو الإقدام على الانتحار من الملل والفراغ، تجد –مثلًا– من جذور أسبابها الافتقاد إلى تربية النفوس على الشكر على الموجود والقناعة بالمقسوم، والتفكر في النعم التي نتقلب فيها بدل الإمعان في التحسر على النعم التي لم تُقسَم!

ونفسية الجحود هذه لا تقتصر على معاملتنا مع الله تعالى، ولا على معاملتنا مع غيرنا ممن يصنعون لنا معروفاً، بل حتى مع ذات المعروف نفسه، إذ لم نعد نستشعر في الإحسان إحساناً بل استحقاقاً لنا، ولا في فضل المحسن فضلاً بل واجباً تجاهنا، مع أن من معاني النُّصْرَةُ، كما جاء في معجم «لسان العرب»: «حُسْنُ الْمَعُونَةِ»، والحُسن في أي عمل هو القيام به على أحسن ما يستطيعه صاحبه، دون مَنٍّ ولا أذى.

ورضي الله عن الصحابة الكرام؛ إذ تأدبوا خير أدب بتوجيهه عليه الصلاة والسلام، حتى كانوا يرون ألا حق لأحد منهم في أن يكون له فضل؛ أي زيادة في مال أو نعمة بينما أخوه لا يملك شيئًا، ولا حق له أن يمنّ بعطفه ذلك الفضل على أخيه، إذ الملك كله لله.

فعن أبي سعيد الخدري: بيْنَما نَحْنُ في سَفَرٍ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إذْ جَاءَ رَجُلٌ علَى رَاحِلَةٍ له، قالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «مَن كانَ معهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا ظَهْرَ له، وَمَن كانَ له فَضْلٌ مِن زَادٍ، فَلْيَعُدْ به علَى مَن لا زَادَ له»، قالَ: فَذَكَرَ مِن أَصْنَافِ المَالِ ما ذَكَرَ، حتَّى رَأَيْنَا أنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ(2).


تجويع غزة بين النظر الفقهي والموقف القانوني | مجلة المجتمع

تجويع غزة بين النظر الفقهي والموقف القانوني | مجلة المجتمع
التجويع هو أحد أقدم الوسائل التي لجأ إليها البشر لهزيمة أعدائهم، غزة نموذجا
mugtama.com
×


ومما يضاد التربية الصحيحة أن يشهد المسلمون مصاب إخوانهم من جوع أو عطش أو تشريد، فينظرون لما بين أيديهم من نعم نظرة تذنب واستخذاء؛ أي يشعرون بالذنب والخزي لحصول النعمة لهم على حرمان إخوانهم منها، ويدفعهم ذلك التذنب لمختلف صور التعامل الخاطئة مع النعمة، بل ومع المنعم جلّ وعلا! فيحرمون أنفسهم طواعية منها بالكلية لفترة تعاطفًا، ثم يعودون لاستعمالها على مضض، وبين هذا وذاك يتأففون ويتحسّرون ويتجّهمون كل ما شهدوا النعمة بين أيديهم!

والتعامل الصحيح يكون أن يستعظم المُنْعَم عليه قيمة ما أنعم الله به وقت الإنعام، تمامًا كما أن عليه أن يصبر وقت المنع، فيشكر ويحمد ويعلو في وجدان المؤمن تقدير المُنعم جل وعلا، حتى يَستخرِج العرفانُ حمدَ الله تعالى من صميم قلب العبد، كما عبر عن ذلك سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في قصة رويت عنه أنه سئل: أتشرب الماء المبرد أم غير المبرد (زهدًا وتقشّفًا)؟ قال: بل أشرب المبرد؛ لأنه يستخرج الحمد من صميم القلب، وصاغ الصاحب بن عباد المعنى في بيت شعر(3):

قَعقَعَةُ الثَلجِ بِماءٍ عَذبِ        تُستَخرَجُ الحَمدَ مِن أقصى القَلبِ

وينطبق هذا المنهج مع كل نعم الله تعالى الملموسة والمعنوية، مصداق وصية النبي صلى الله عليه وسلم: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُو ‏أَجْدَرُ ‏‏أَلَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ‏‏عَلَيْكُمْ»(4)، إن المسلم الذي يبلغ به حب الهوى أن يكدّر عليه سائر يومه أو يوقعه في الشّقاق مع من حوله عدم وجود نوعه المفضل من الجبنة أو نقصان نصيبه من حلوى، حَرِيّ بأن يُدَكّ دكًّا عند أية نازلة!

هذا والبنية الإنسانية غير مهيئة لتتخذ الغم أو اللهو بذاتيهما عملًا، وإنما القصد من الغم والحزن ومختلف المواجيد أن تدفع صاحبها لإجراء وتشحذ همّته لنصرة المبتلى والتخفيف عنه، لا أن يتخذ الحالة بذاتها عملًا فتُقعِده عن كل نفع لنفسه وغيره!

وإن كل من تبكيهم قد أَفْضَوا أو سيُفضون إلى ما قدموا عند الله تعالى لا محالة، لا يغني عنهم ولا ينفعهم إلا ما قدّموا هم لأنفسهم من عمل صالح، أو يقدمه لهم الأوفياء من بعدهم حِسْبة عنهم، فانظر لما في يدك من نعم فأدّ شكرها، وما عليك من واجب الوقت فقم به، وما في نفسك من طاقات مادية أو معنوية فاستثمرها، وما تستطيعه من خير فتصدّق بالقيام به، وما تستطيعه من شر فتصدق بالامتناع عنه.

 




_____________________

(1) الطبراني: المعجم الكبير، باب العين، من اسمه عبد الله، أحاديث عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وما أسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عبيد الله بن المساور عن ابن عباس، حديث (12741).

(2) صحيح مسلم: كتاب اللقطة، باب استحباب المؤاساة بفضول المال، حديث (4517).

(3) الزمخشري: ربيع الأبرار.

(4) صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، حديث (7430).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة