الرفاهية في الخليج.. حين تتحول النعمة إلى نقمة
في الخليج، حيث
ترتفع ناطحات السحاب وتتسابق المدن في رفاهية العيش، تتسلّل أزمة صامتة، تكاد إن
لم تتدارك أن تطيح بالمجتمع ككل من خارطة الحضارة التي يمثل الإنسان عصبها
وجوهرها.
أجساد خاملة، لا
تعرف للحركة البناءة طريقاً، فمن غرفة النوم المكيفة، إلى السيارة المكيفة، إلى
كرسي المكتب المكيف، وفي المقابل أوقات ضائعة خارج البيوت تتعاظم معها الحاجة إلى
طعام سريع، وهنا الطامة، حيث «الفاست فود» (الوجبات السريعة) وما به من كوارث كما
يصفها الأطباء.
ما بين هذه
الرفاهيات المتعددة تولد أزمة الرفاهية، وتنتج كوارثها التي تهدد الصحة العامة،
شباب في عمر الفتوة يشكون من سمنة ومضاعفاتها، أو من خشونة مفاصل وآلامها، وقليلون
هم من يذكرون حقوق أجسادهم عليهم.
أرقام مخيفة
بحسب مؤسسة
الرعاية الصحية الأولية في قطر ومنظمة الأمم المتحدة، فإن هناك استمراراً لارتفاع
معدلات السمنة في الخليج، خاصة بين الأطفال، وتتراوح المعدلات بين 2% و55% لدى
البالغين، و5% و14% لدى الأطفال والمراهقين من الذكور، و3% و18% لدى الإناث.
ففي المملكة
العربية السعودية، أكد مرصد السمنة العالمي في تقريره المنشور في مارس 2023م، أن
المملكة تأتي في المركز الـ17 عالمياً، والثالثة عربياً بمعدل 31.73%.
أيضاً، فإن
المركز الجامعي لأبحاث السمنة بجامعة الملك سعود أكد، في يناير من العام نفسه، أن الدراسات
الحديثة أثبتت أن نسبة السمنة في المجتمع السعودي قد ازدادت بصورة تدعو للقلق، حيث
إن 23.6% من النساء، و14% من الرجال يعانون من السمنة، بينما بلغت نسبة الزيادة في
الوزن 30.7% بين الرجال، و28.4% بين النساء.
وفي البحرين
التي تعتبر العاشرة عربياً ومن أكثر 20 دولة عالمياً في مؤشر مرض السمنة، هناك
تأكيدات من رئيس جمعية الأطباء البحرينية د. عامر الدرازي، بأنه وبحلول عام 2030م
سيتجاوز عدد الأشخاص المرضى بالسمنة نصف مليون شخص، لافتاً إلى أن الأرقام تظهر
ارتفاع السمنة لدى الأطفال في المدارس أكثر من 20%، وهي من أعلى النسب عالمياً.
يأتي ذلك بينما
تحتل قطر المركز الـ16 عالمياً والثاني عربياً، وترتفع معدلات السمنة بها إلى ما
يقارب 54% من إجمالي المراجعين لعيادات التغذية العلاجية، وفقاً لتقرير صادر عن
مؤسسة الرعاية الصحية الأولية بالدوحة.
وبينما تحتل
الكويت الصدارة في معدلات السمنة للرجال البالغين في الدول العربية بـ34.28%،
والمركز الـ15 في الترتيب العالمي، فإن الإمارات العربية المتحدة تأتي في المركز
الخامس عربياً والـ26 عالمياً، فيما يعاني قرابة الـ49% من البالغين في سلطنة عُمان
من السمنة وتأثيراتها.
تحول اجتماعي
ولأن المجتمعات
الخليجية تُعد من أكثر مناطق العالم رفاهية، فإن تلك الأرقام لا تُعبّر فقط عن
ظاهرة صحية، بل عن تحول اجتماعي وثقافي يُعيد تشكيل علاقة الإنسان بنعمته، فحين
تتحول النعمة إلى استسلام، يُصبح الترف عبئًا، والراحة سجنًا ناعمًا.
وفي رصد أجرته
منصة «Google Trends» خلال الأشهر الستة الماضية، ارتفعت معدلات
البحث في الخليج عن كلمات مثل السمنة، والدايت، والخمول الصحي بنسبة تجاوزت 62%
مقارنة بعام 2023م.
فيما شهدت منصة «X» مئات
النقاشات تحت وسم «#الخمول_الخليجي» و«#السمنة_في_الخليج»، وهو ما يعكس تحوّل
القضية إلى «ترند» مجتمعي فعلي لم يعد حكرًا على الأطباء، بل بات حديث الشارع
الخليجي ومؤثراته.
تكلفة الصمت
الخمول في
الخليج لم يعد مجرد عادة شخصية، بل صار نمطًا حياتيًا موروثًا، من العمل المكتبي
الطويل، إلى الاعتماد الكلي على السيارات، مرورًا بتزايد الطلب على خدمات التوصيل،
تتشكل منظومة يومية تُقصي الجسد من المعادلة.
تظهر تقارير
إقليمية أن متوسط النشاط البدني اليومي للفرد في المدن الخليجية لا يتجاوز 20
دقيقة، مقابل أكثر من 45 دقيقة في المتوسط العالمي.
الأمر لا يقتصر
على الكبار؛ فدراسة كويتية حديثة أظهرت أن 61% من طلاب المدارس لا يمارسون الرياضة
أسبوعيًا؛ ما ينذر بجيل مهدد مبكرًا بأمراض السمنة والسكري.
من منظور
اجتماعي، فقد أسهم الثراء والاعتماد على العمالة المنزلية في ترسيخ ثقافة الخدمة
الدائمة، حيث لم يعد الجهد جزءًا من حياة الأسرة، ولا أفرادها، فينشأ الطفل على
تلك الثقافة ويتحول في سني مراهقته وشبابه إلى عبء على من حوله لو قدر له أن يخالط
مجتمعات أخرى.
فالترفيه هنا لا
يعني الحركة أو الرياضة، بل غالبًا الجلوس في المقاهي أو أمام الشاشات، حتى
المبادرات الحكومية الهادفة إلى تعزيز جودة الحياة تصطدم أحيانًا بعادات الترف
المتأصلة في المجتمع.
الأدهى والذي لا
ينتبه له كثيرون أن الرفاهية الصحية المفقودة لها كلفة اقتصادية مباشرة؛ إذ تشير
منظمة الصحة العالمية إلى أن الخمول البدني كلّف دول الخليج نحو 8.6 مليارات دولار
سنويًا في تكاليف علاج الأمراض المرتبطة به.
كما ربطت دراسة
لمؤسسة «KPMG» بين انخفاض الإنتاجية العامة وارتفاع
معدلات الغياب بسبب الأمراض المزمنة الناتجة عن قلة الحركة.
الأمر إذن ليس
مجرد أزمة صحية يمكن التعامل معها وتجاوزها بأدوات الرفاهية أيضاً، بل أزمة إنتاج
وتنمية؛ فحين يشيخ الجسد، تشيخ معه المجتمعات وتتلاشى.
تحول مطلوب
لكن الصورة ليست
قاتمة تمامًا؛ فهناك بوادر وعي متنامٍ، خصوصًا بين الشباب الخليجي، مع تزايد
الإقبال على النوادي الرياضية وسباقات الجري والماراثونات المحلية.
غير أن التحول
الحقيقي يتطلب تغييرًا في الثقافة العامة، لا في أنماط الترفيه فحسب، أن تتحول الرفاهية
من استهلاك إلى توازن، ومن خمول إلى حيوية.
وتشهد دول
الخليج اليوم نشاطًا متزايدًا في المبادرات الرياضية المجتمعية؛ فالسعودية تنظم
سنويًا «يوم المشي الوطني» الذي شارك فيه العام الماضي أكثر من 250 ألف شخص في 20
مدينة مختلفة، بينما أصبح ماراثون دبي واحدًا من أضخم الفعاليات الرياضية في الشرق
الأوسط، مستقطبًا عدّائين من أكثر من 100 دولة، تلك المؤشرات تُظهر أن التغيير
ممكن حين تتلاقى الإرادة الفردية مع الدعم المؤسسي.
لكن يبقى السؤال
قائماً: هل يستطيع المجتمع الخليجي أن يُعيد تعريف النعمة قبل أن تنقلب عليه نقمة؟
إن الخطر ليس في
كثرة النعم، بل في غياب الشكر العملي لها؛ فالشكر ليس قولًا، بل حركة حياة، ولعل
أعظم ما نختم به هو قوله تعالى: (لَئِن
شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7).
فهل آن لنا أن
نشكرها بحركة لا بسكون، بنشاط واقتصاد لا بخمول ونهم على رفاهية تقعدنا وتشيخ معها
أجسادنا وبعدها مجتمعاتنا؟!
اقرأ
أيضاً:
مجتمعنا
والاستهلاك الترفي لغز اقتصادي!
السمنة في
الكويت... أزمة صحية وطنية تهدد الأجيال