طبيعة المشروع الصهيوني في القدس وأهدافه

يقول د. عبدالوهاب المسيري عن المشروع الصهيونيّ: إنَّ «الصهيونية فكرة
استعمارية ذات صفة إحلالية فريدة»، وقد جاء الاحتلال ليكون التعبير الحيّ عن هذه
الفكرة(1)، وقد حمل المشروع الصهيونيّ أهدافًا مسكوت عنها، فلا يُفصح
الاحتلال عنها إلا بعد إتمامها، وقد ظهرت هذه السياسة منذ بدايات الاستيطان
الصهيونية في فلسطين وحتى يومنا هذا، إذ ينتظر الظروف المواتية لتحويل اعتداءاته
وما يقوم به من استيطان وتغلغل وإحلال إلى حقائق وقوانين(2).
أما عن طبيعة هذا المشروع في القدس خاصة، فقد كانت الرؤية الصهيونيّة المبكرة قائمة على الحسم المباشر والكامل لهوية المدينة العربية والإسلامية، ففي خطاب ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، في مؤتمر الحركة الأول في أغسطس 1897م، تحدث عن رؤيتهم تجاه مدينة القدس فقال: «إذا حصلنا يومًا على القدس، وكنت لا أزال حيًا وقادرًا على القيام بأي شيء، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسًا لدى اليهود فيها، وسأحرق الآثار التي مرت عليها قرون»(3).
ولم يكن كلام هرتزل إلا ركيزة بنى عليها المشروع الصهيوني رؤيته تجاه
القدس، فقد سعى الاحتلال ومنذ احتلاله للشطر الغربي من المدينة المحتلة إلى
تحويلها إلى عاصمته اليهوديّة المزعومة، على أن تكون يهوديّة المعالم والهوية
والسكان، فقد قال ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للاحتلال: «لا معنى لـ«إسرائيل»
من دون القدس، ولا معنى للقدس من دون المعبد»(4).
هذه الرؤية الإقصائية التي تريد إحلال الهوية اليهودية بعد تدمير الهوية
العربية والإسلامية، تجلت في طريقة تعامل الاحتلال مع فلسطين عامة والقدس بشكلٍ
خاص، فقد قامت إستراتيجيات الاحتلال على مبدأي الضمّ والتوسع، فهو يعمل من جهة على
السيطرة على أكبر مساحة من الأرض، ويقوم من جهة أخرى بطرد أكبر عددٍ من
الفلسطينيين، ويقوم المشروع الصهيوني في القدس على جملة من المخططات، والأهداف
المركزية، ويمكن أن نسلط الضوء على أبرزها من خلال استقراء سلوكه منذ احتلال شطري
المدينة وحتى اليوم:
- الأهداف الأمنية:
توفير حزام أمني محيط بالقدس ليعزل المدينة بشكل كاملٍ عن امتداداتها
الفلسطينيّة، فقد حافظ الاحتلال على المواقع العسكرية المهمّة في مرتفعات القدس
ومناطقها الحساسة، وعمل على تعزيزها، وآخرها في الأسبوع الماضي، مع إقرار بناء
مركز ضخم للشرطة، مطل على المسجد الأقصى يقع على تلة ترمس، وهو من المواقع الإستراتيجيّة.
وإلى جانب الهدف الأول، عمل الاحتلال على توفير حماية للطريق المؤدي إلى القدس من
جهة نهر الأردن، وقد عمل الاحتلال على تعزيز هذا الحزام الممتد على طول نهر
الأردن.
- الأهداف الديموغرافية:
عمل الاحتلال على عرقلة النمو العمراني والسكاني الطبيعي للمقدسيين، وأعاق
تمددهم في محيطهم، وحشرهم في أحياء صغيرة غير قابلة للتطور السكاني والاجتماعي
والاقتصادي والسياسي.
وأمام هذا الحصار المطبق على الأحياء الفلسطينية، دفع الاحتلال المقدسيين
إلى الهجرة من داخل القدس إلى ضواحي المدينة أو إلى خارجها، من خلال تحويل القدس
إلى مدينة طاردة للمقدسيين، عبر الغرامات الباهظة وتكاليف الحياة العالية، وضرب
قطاعاتهم الصحية والاقتصادية في مقابل تذليل العقبات أمام المستوطنين، من خلال
جذبهم، وتقديم التسهيلات المختلفة لهم، وفي المقابل تحرم سلطات الاحتلال المقدسيين
من السكن من خلال هدم منازلهم.
وأدت هذه السياسات إلى تصعد أعداد المستوطنين في القدس منذ احتلال الشطر
الشرقي وحتى يومنا هذا، فقد رفع الاحتلال نسبة المستوطنين في المدينة، عبر رفع حجم
البناء الاستيطاني وكثافته في القدس المحتلة وما حولها، وقدم لهم إغراءات ليجذبهم
من داخل الأراضي المحتلة ومن خارجها، لكي ينتقلوا للعيش في القدس.
- الأهداف السياسية والاقتصادية:
عمل الاحتلال على تعزيز مكانة القدس كعاصمة لدولته، والترويج بأنها عاصمة
يهوديّة المعالم والسكان، وفي سياق تحقيق هذا الهدف ومن خلال رفع حجم الوجود
الاستيطاني قام الاحتلال بفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها لقطع الطريق أمام أي
أمل بإقامة الدولة الفلسطينية.
وفي مقابل هذا الفصل، كرست سياسات الاحتلال المتعاقبة توحيد شطري المدينة،
والسعي إلى تأسيس «القدس الكبرى»، عاصمة يهودية أبدية موحدة ليس لدولة الاحتلال
فحسب، بل لكلّ يهود العالم، ومع مضي الاحتلال نحو هذا الهدف، فإن الوجود الفلسطيني
في القدس شكل عقبة كبيرة أمام هذا المخطط، فعمل على جملة من الأهداف استهدف الوجود
الفلسطيني وقطاعاتهم المختلفة:
1- تفكيك التواصل الجغرافي بين أحياء القدس، وعزل المدينة عن المدن
الفلسطينية.
2- إخضاع منظومة المقدسيين في المعيشة والاقتصاد لمنظومة الاحتلال (التبعية
الاقتصادية).
3- ضرب مقوّمات صمود المجتمع المقدسي؛ وهو ما يتجلى في محاولات السيطرة على
قطاعي التعليم والصحة، وإقرار الخطط الخمسية الضخمة، التي تسعى إلى تحويل
المقدسيين إلى عمالة رخيصة لدى الاحتلال وشركاته التقنية.
4- انتزاع اعتراف دولي بأن القدس ليست محتلة، وهي عاصمة «إسرائيل»، وهي
سلسلة بدأتها الولايات المتحدة بنقل سفارتها إلى القدس المحتلة، ومن ثم تبعتها
عددٌ من الدول الهامشية.
- الأهداف الدينيّة والثقافية والعمرانيّة:
لا شك بأن جزءًا أساسيًا من هوية المدينة مرتبط بما تحتويه من معالم دينيّة
وثقافية وعمرانية، وهو ما أعاق مخططات الاحتلال، الذي كثّف بناء المراكز والمعالم
اليهودية لإعطاء الطابع اليهوديّ للمدينة، ويحاول عبرها تشويه المظهر الحضاري
للمدينة.
ومع تصاعد محاولات الاحتلال لإحلال هويته، فإن يعمل على تشويه المعالم
العربية والإسلامية، وطمس كل ما يمت لها بصلة من أماكن ومعالم ومساجد وكنائس،
وصولًا إلى التضييق على المقدسات الإسلامية والمسيحية، ومكوناتها البشرية، في سياق
فرض سيادة الاحتلال الكاملة على هذه المقدسات.
________________________
(1) عبدالوهاب المسيري، الاستعمار الصهيوني وتطبيع الشخصية اليهودية:
دراسات في بعض مفاهيم الصهيونية والممارسات الإسرائيليّة، مؤسسة الأبحاث العربية،
بيروت، 1990، ص 17-30.
(2) وليد سالم، مجلة قضايا إسرائيلية، المركز الفلسطيني للقضايا «الإسرائيلية»
– مدار، عدد 83، ص 84-85.
(3) مركز باحث للدراسات الفلسطينية والإستراتيجية، https://tinyurl.com/y35ahst3.
(4) خالد شاهين، الإستراتيجيات الصهيونية تجاه المسجد الأقصى، مجلة دراسات
بيت المقدس، المجلد 21، العدد 3، ص 443.