جيل النصر.. الواقعي والافتراضي

في
مسيرة الصراع بين الحق والباطل، نصر الله النبي صلى الله عليه وسلم وَفْقًا لعالم
الأسباب لا المعجزات؛ ولهذا أمرنا بالاقتداء به، ولو نصره بعالم المعجزات لما أمكن
الاقتداء به.
بين القصور والتقصير.. سُنة الله في النصر
في هذا
السياق، يبرز مصطلحا القصور والتقصير، ولبيان معناهما بإيجاز يمكن القول: إن
القصور هو العجز عن إدراك الممكن، وهو واقع بغير اختيار الإنسان، ويرجع إلى النقص
الجِبِلِّي الذي خُلِقَ فيه الإنسان، وبالتالي محدودية قدراته وإمكاناته، وأما
التقصير فهو ترك فعل الممكن، ويقع باختيار الإنسان، وهو ناتج عن الإهمال وعدم
الأخذ بتمام الممكن من الأسباب.
لهذا،
فإن الله يعفو عن القصور، ويؤاخذ على التقصير؛ وعليه، فالقصور وارد على الرسول صلى
الله عليه وسلم وغيره، أما التقصير فغير وارد على الرسول صلى الله عليه وسلم
لعصمته، ويقع من غيره من الناس مهما بلغت منزلتهم في الفضل.
في
رحلة الهجرة، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالممكن من الأسباب، ومع هذا فقد أدركه
فرسان قريش وهو في الغار، وأدركه سراقة بن مالك بعد ذلك، وكادت أن تحصل كارثة في
الحالتين لولا تدخل عناية الله، لم يكن ذلك تقصيرًا من النبي صلى الله عليه وسلم؛
لأنه معصوم، بل كان قصورًا؛ لأنه بشر.
بطبيعة
الحال، ولأن العصمة قد دُفِنَت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولأننا بشر طبيعتنا
النقص وعدم الكمال؛ فإننا مهما أخذنا بالأسباب، فسيظل هناك هامش من القصور، هذا
القصور منشؤه أننا بشر لن ندرك مرتبة الكمال، وسيكون هناك هامش من التقصير، منشؤه
أننا غير معصومين.
تأسيساً
على ما سبق، فإن الجيل الذي يفتح الله على يديه نصرًا أو نهضة أو خيرًا ونفعًا
للإسلام وأهله، ليس جيلًا ملائكيًّا لا يخطئ، بل هو جيل فيه -ولا بد- قصور وتقصير؛
قصور لأنه بشر، ومهما حاول رفع إمكاناته وتقليل هامش قصوره البشري، فسيبقى عنده
نقص، وتقصير لأنه غير معصوم، وهذا التقصير يزيد وينقص، يتردد بين الصغائر
والكبائر، الفردية والجماعية، في المجال العبادي والتعاملي.
وهو
-أي التقصير- أمر واقع ولا بد منه، وليست المشكلة في وقوعه، بل في التطبيع معه،
وشرعنته، والرضا به، والتعامل معه كقدر محتوم لا يمكن دفعه، ولهذا فإن هؤلاء الناس
يصيبون ويخطئون، ثم يتوبون، ثم يخطئون، وتوبتهم يعتريها قصور لأنهم بشر، وتقصير
لأنهم غير معصومين، وهكذا دواليك.
والمقصود
أنه لا يمكنهم الوصول إلى صفر تقصير في كل عمل؛ قد يحصل هذا في بعض الأعمال، لكن
لا يمكن أن يحصل في جميعها.
قد
يقول قائل: ما الفائدة من التوبة أو المراجعة المتكررة إن كانت ستتضمن ولا بد
قصورًا وتقصيرًا؟ خاصة وأننا نصبح أمام دورة قد تبدو عديمة الجدوى؟ تتجلى الفائدة
في العمل الدؤوب لرفع مستوى الكفاءة وتقليل هامش القصور، والوصول بالتقصير إلى
أدنى مستوياته، والقطيعة النفسية معه ومع أسبابه، والابتعاد عن موارد السقوط
والهلاك الناتجة عن مراكمة التقصير.
وبالمناسبة،
فإن هذه السردية هي ما يحصل لنا في صراعنا من الشيطان الرجيم في المجال الفردي،
نحن في معركة مع الشيطان، مجالها الحياة الدنيا، وليس ذنبك مهما عظم آخر الدنيا
ولا نهاية المطاف، ليس هذا تهوينًا من شأن الذنوب، فإن شأنها عظيم، ولكن عظمة
الذنب لا تُقْعِد التائب عن المسير إلى الله، بل تَستحثِّه على تجديد التوبة عند
كل كبوة؛ لأن القعود فيه الهلاك، إذ ليس بعد التقدم إلا التأخر، قال سبحانه: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ
أَوْ يَتَأَخَّرَ) (المدثر: 37)، ولم يذكر أو يقف؛ إذ -كما يقول ابن القيم- لا منزل بين
الجنة والنار ولا طريق لسالك غير الدارين البتة، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال
الصالحة، فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة.
ثم إن
الله تعالى (كَانَ
لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا) (الإسراء: 25)، والْأَوَّاب مُشْتَقّ مِنْ «الْأَوْب» وَهُوَ
الرُّجُوع، يُقَال: آبَ فُلَان إِذَا رَجَعَ، والمراد بالآية التائب من الذنب، الرَّجَّاع
من المعصية إلى الطاعة، فهو كلما أحدث ذنبًا أحدث بعده توبة.
وهم الكمال ومعطلات النهوض
في
سياق الحديث عن مقومات النصر، نشأ جيلنا على مفردات، مثل: «من هنا تأتي الهزيمة»،
لما مرَّ صلاح الدين بخيمة فوجدهم نائمين لا يقومون الليل، ولما مر بخيمة تقرأ
القرآن وتقوم الليل، قال: «من هنا يأتي النصر»، بعيدًا عن ثبوت هذه القصة من عدمه،
فإنها اتُّخِذَت أحيانًا مطية لوأد أي محاولة لمقاومة وإصلاح الواقع المتردِّي،
بحجة أننا لم نأخذ بالأسباب كما ينبغي، والواقع أن هذه السردية صوَّرت جيل النصر
تصويرًا افتراضيًّا، لا يؤيده عقل ولا شرع ولا تجربة إنسانية.
لقد
هُيِّئ لنا جيل النصر بأنه رامبو إيمانيًّا وسلوكيًّا: يقوم فلا يرقد، يصوم فلا
يفطر، مُبَرَّأ من الظلم والفساد والاستبداد؛ الأمر الذي كان له انعكاسات، منها:
1- حديث
الجماعات الجهادية عن صفاء المنهج ووضوح الراية، وجعْلِه معيارًا في العلاقة مع
الجماعات الإسلامية الأخرى، وعليه تقوم عقيدة الولاء والبراء، وبالتالي فإن أي خلل
يعكِّر صفاء المنهج يوجب المفارقة والبغضاء والعداوة، وصولًا إلى التكفير والقتال.
2-
حديث بعض الجماعات الإصلاحية عن مسار التربية أولًا ثم المقاومة ثانيًا، على
اعتبار أن وجود التربية شرط لازم قبل كل تجربة نصر ونهضة، وكأنَّ الجمع بين
المسارين في آنٍ غير ممكن، مع أن التجارب تشهد بأن بيئة العمل أحد أهم محاضن
التربية، وأعمقها أثرًا في صناعة الأجيال.
والتربية
-على أهميتها البالغة- حين تتحوَّل إلى مسارٍ لا نهائي، فإنها تعطِّل الطاقات،
وتضيّع الفرص، وتُبقي الأمة في دائرة الانتظار بدل أن تدفعها إلى ميادين العمل.
وبعضهم
أقام التدين الشكلي الظاهري (كقصة الشعر، واللحية، وهيئة اللباس.. وغيرها) مقامًا
عظيمًا، وصار يُقَيِّم أشجع الناس وأنهضهم للقيام بالواجب بناء على هذه الأمور،
ولم يستوعب أن يكون حليق اللحية أو المدخن مجاهدًا، وكأن الذي يمارس الخطايا
الخفية يمكنه ذلك.
وهذا
الفهم أفرز خطابًا، من مثل: «يا أبا عبيدة جاهد بالسنن»، حيث لم يكتف أصحابه
بالإخلاد إلى الأرض، بل صاروا يحرضون المجاهدين على ترك ثغورهم، في واحدة من أعظم
معارك الإسلام في التاريخ المعاصر.
هذه
المدارس وتجاربها كان لها دور في التنويم الذي حصل للأمة، حتى إذا ما جاء وقت
النفير لم ينهض إلا النزر اليسير.
ولهذا،
فإن من الواجب العظيم على المصلحين تفكيك خطابات التنويم، وهي كثيرة، ومنها:
اختزال مفهوم الجهاد في سبيل الله في الجهاد المالي، وإذكاء الخلاف الطائفي «السني
الشيعي» أو المذهبي «السلفي الأشعري» بما لا يخدم إلا مصالح حلف الاستعماروالاستبداد، وغيرها من القضايا التي تغدو عوامل تعطيل خاصة عند وجوب العمل الناجز.
والمقصود
أن طلب الكمال في جيل النصر علاوة على أنه فكرة غير واقعية، فهو وهْم معطِّل عن
العمل، والمطلوب منك أن تبدأ، وأن تتربَّى في المسيرة، هناك حيث يشتبك التطبيق
بالنظرية، تتطوَّر الفكرة وتطبيقها.
على
امتداد التاريخ الإسلامي، لم يتوقف المسلمون عن تحقيق انتصارات عسكرية عظيمة (في
سياق الإنجاز الحضاري العام)، رغم ما كان في مجتمعاتهم من معاصٍ ومظالم على
المستويات الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية، سواء من جهة السلطة أو
المجتمع، فردية كانت أو جماعية، صغائر كانت أو كبائر؛ ومع ذلك، لم يكن وجود هذه
المظاهر مانعًا لهم من حمل راية الجهاد ونصرة الدين، بل كان المصلحون يرون في
الجهاد نفسه وسيلة لإعادة الناس إلى ربهم، وتطهير النفوس بالعمل والتضحية والبذل.
إن
حركة الأحداث في أي مجتمع أكبر وأعقد من أن تختزل في عامل واحد، فهي نتاج تفاعل
عوامل متشابكة، دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية، والتركيز على أحد
العوامل دون غيره يجعل النتيجة بتراء؛ تميل إما إلى المثالية المفرطة أو إلى
التشويه المجحف.