«الخصوصية العائلية».. بين احترام القيم وسطوة «السوشيال ميديا»!

عامر شماخ

27 يوليو 2025

334

في ظل «المجتمع المعلوماتي» المعاصر، والذي تأسس بالتوازي مع «التكنولوجيا الرقمية» التي صارت أمرًا حتميًّا –ازداد بالتبعية استخدامُ أفراد الأسرة لـ«وسائل التواصل الاجتماعي»، مع عدم القدرة على ضبط الاستخدام الآمن لها؛ ما أثّر بالسلب على منظومة القيم العائلية، الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية؛ ما يتطلب التعرّض لهذه القضية بهدف رفع الوعي الأسري بأهمية الاحتياط لما يأتي من البيئة الرقمية، والتحكُّم به.

تشير «الخصوصية العائلية» إلى حق أفراد العائلة في الحفاظ على شئونهم الشخصية والعائلية، بعيدًا عن التدخل والاطلاع الخارجي، ويشمل ذلك الحق في اتخاذ القرارات بشأن الأمور الحياتية، والعلاقات مع الآخرين، كما تشمل أيضًا الجوانب العاطفية والنفسية لأفراد الأسرة؛ بما يضمن حماية القيم والسلوكيات، واحترام المساحة الخاصة، وسرية المعلومات داخل العائلة.

لماذا «الخصوصية العائلية»؟

تمكِّن الخصوصية العائلية الطفل من الحفاظ على علاقات صحية، معززةً بذلك صحته النفسية، متيحةً له مساحة لاستكشاف مشاعره وأفكاره، ومن ثم تطوير هواياته واهتماماته، ودعم نمو شخصيته الفردية والاستقلالية.، وهي للكبار ضرورية لبناء الثقة بين أفراد العائلة، لاحترام بعضهم البعض للحدود والخصوصيات، فيزداد الشعور بالأمن والطمأنينة، وتقلّ النزاعات الناتجة عن التطفل، عكس من تُنتهك خصوصياتهم، خصوصًا في مرحلة الطفولة؛ حيث لا يكون هناك تفاهم متبادل أو احترام.

وهذه الأهمية للخصوصية عمومًا هي ما جعلتها حقًّا أساسيًّا من حقوق الإنسان، تعرّضت له العديد من إعلانات ومعاهدات حقوق الإنسان المعاصرة، وأهمها المادة الثانية عشرة من (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)، التي نصّت على ذلك بقولها: (لا يجوز تعريض أحد لتدخُّل تعسُّفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمسُّ شرفه وسمعته، ولكلِّ شخص الحق في أن يحميه القانونُ من مثل ذلك التدخُّل أو تلك الحملات).


«السوشيال ميديا» وثقافة الاستهلاك عند المرأة العربية |  Mugtama
«السوشيال ميديا» وثقافة الاستهلاك عند المرأة العربية | Mugtama
مثَّل انتشار مفاهيم العولمة وسيطرة الفكر الرأسمالي...
mugtama.com
×


«الخصوصية العائلية» في تراثنا وثقافتنا

تمثل «الخصوصية العائلية» في الإسلام أمرًا مهمًّا في البنية الأخلاقية والتشريعية، وهي نابعة من تعاليم القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ بهدف حماية حرمات المسلم وصوْن كرامته، وتحصين البيوت من الفتن، والحفاظ على الأسرة باعتبارها النواة الأساسية في المجتمع؛ فنهى القرآن عن التجسس: (وَلَا تَجَسَّسُوا) (الحجرات: 12)، وأمر بالاستئذان قبل دخول البيوت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا) (النور: 27)، وأوجب على أولياء الأمور تعليم صبيانهم وما ملكت أيمانهم خُلق الاستئذان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) (النور: 58)، كلُّ هذا لغرس مفهوم الخصوصية حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، فما بالك بالغرباء؟

وحفلت السنة الشريفة أيضًا بالنصوص الداعية إلى وجوب احترام خصوصية البيوت والأشخاص، وعدم التعدي على تلك الخصوصية، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لو أن امرأً اطّلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح» (رواه البخاري)، بل تتعدى هذه الخصوصية إلى ستر عورات الجسد، والعلاقة الزوجية وما يدور أثناءها؛ «إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ثم ينشر سرّها» (رواه مسلم)، ورغم التطورات الاجتماعية ومرور الزمن بقيت بيئاتنا إلى وقت قريب مترابطة، شبه مغلفة، تتميز بالتكتم والسرية، وتربي أبناءها على التحفظ من الغرباء، والملاذ بالصمت فيما يجري داخل الأسرة.

تعري البيوت على الملأ

ومما يؤسف له أن كثيرًا من البيوت الآن تعرّت على الملأ، أمام الملايين الغرباء، إما بنشر الصور والفيديوهات التي تظهر تفاصيل الحياة اليومية داخل البيت وما يجري في غُرفه، أو بمشاركة معلومات حسّاسة كالعناوين وأرقام الهواتف وتفاصيل أخرى مهمة، أو بنشر المشكلات الأسرية والخلافات الزوجية وانحرافات الأبناء إلخ، وهذه النماذج انتهاك صريح للخصوصية العائلية، وظاهرة مقلقة في العصر الرقمي، بل ربما عرّضت حياتهم الخاصة للتطفل الفجّ، إن لم تعرّضها للخطر المباشر.

وإذا كان البعضُ حَسَنَ النية في البداية، يفعل ذلك بغرض المباهاة والتسلية، فإنها تتحول تلقائيًّا، إن لم يردع صاحبَها بقيةٌ من دين أو من ضمير، إلى أفعال وممارسات غير محمودة العواقب، وما يجري في «غرف الدردشة» أمر مشين، من محادثات تمثل جرائم أخلاقية تنتهك الخصوصية، وقد تفضي إلى خراب البيوت، ومع وجود برامج اختراق الخصوصية، قد يستغلها البعض في التجسس والتزييف، ثم الابتزاز والتنكيل في مرحلة تالية.


صراع خلف الشاشات! |  Mugtama
صراع خلف الشاشات! | Mugtama
معالم الحروب والصراعات العسكرية قد تغيرت في عصرنا الحديث بشكل جذري بفعل التطور التكنولوجي
mugtama.com
×


سطوة «السوشيال ميديا»

كثير من المؤثرين خضعوا لسطوة «السوشيال ميديا» ووقعوا في فخ خطير، بعدما عَرَضُوا تفاصيل حياتهم العائلية والخاصة على الملأ، بل قاموا بـ«تسليع أنفسهم، وأطفالهم، ومرضاهم، وكبار السن، وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم»؛ إما سعيًا وراء شهرة وتحقيق أرباح، بحصد التفاعلات والمشاهدات وإحراز «الترندات» عبر المنصات المختلفة، أو لغياب الوعي بأهمية الخصوصية الرقمية، أو للاستهانة بالعواقب القانونية والأخلاقية، وتخطت الأمور –في كثير من الحالات- نشر الواقع، إلى اصطناع «دراما» مفتعلة لتوليد محتوى مربح، أو تزييف الواقع للحفاظ على «واجهة مثالية» ومكانة مجتمعية غير حقيقية.

ومع مرور الوقت يشارك المؤثر «جمهوره» كل شيء في حياته، وتذوب الحدود الفاصلة بين العام والخاص، حتى أنه يتوهم أن هذا الجمهور هو عائلته البديلة، فيشاركه الأمور التافهة، ثم الحرجة والحسّاسة، ثم إظهار جوانب الضعف والضياع، كأسلوب تسوّل ومسكنة يعزّز به بناء صورة إنسانية لدى المتابعين، وهناك أيضًا من أدمن هذه الوظيفة الرقمية، فلا يستطيع العيش بعيدًا عن «الكاميرا»، فتصير لديه قناعة بأن أي حدث في حياته لا بد أن يتم توثيقه وعرضه على وسائل التواصل، غير مدرك بعواقب ذلك على محيطه العائلي وصحته النفسية،

ضوابط وحلول

من المهم وضع حدود واضحة لما يتم مشاركته على وسائل التواصل الاجتماعي؛ حفاظًا على الخصوصية العائلية من الآثار والأخطار السلبية، وأبرزها: فقدان الخصوصية الشخصية، والابتزاز الإلكتروني، والتنمر والسخرية، واختراق الحسابات وسرقة الهوية، وتهديد السلامة العائلية، فيجب:

- مراعاة الخصوصية التكنولوجية والاجتماعية: بمنع الاطلاع على هواتف الآخرين، وعدم نشر صور أحد أفراد العائلة دون إذنه، واحترام المساحة الخاصة لكل فرد داخل البيت،

- التعريف بأهمية الوعي الرقمي: بالفهم الجيد للأخطار التي قد يتعرض لها أفراد العائلة أثناء استخدامهم للإنترنت، وحماية الأسرة من تلك التهديدات، ومنع الاختراقات، وتعليم الأطفال والمراهقين الاستخدام الآمن للتكنولوجيا، وتنشئتهم على سلوك رقمي مسئول يضمن حمايتهم وحماية أسرهم.

- تعزيز التربية الرقمية في المدارس وبيئات التربية الأخرى: بالتشجيع على نقد المحتوى المسيء وعدم التعامل معه، وإشاعة ثقافة «الصمت العائلي» بعدم نشر التفاصيل، ضمن مبادرات توعية من قبل الحكومات ومنظمات المجتمع المدني، وكذلك التوعية بالتأثيرات النفسية لـ«الإدمان الرقمي».

- سن القوانين المناسبة لحماية الخصوصية العائلية، خصوصًا الأطفال: ومساءلة كل من ينتهك هذه الخصوصية، ووضع آلية للإبلاغ عن أي انتهاك، ووضع ضوابط لتقنين عملية النشر حفاظًا على ثوابت المجتمع وقواعد الأمان الرقمي.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة