صراع خلف الشاشات!

عندما أمر الله تعالى المسلمين أن يُعِدّوا ما استطاعوا من وسائل القوة
والإمكانات العسكرية والتجهيزات الدفاعية والهجومية التي تحقق لهم القدرة على
حماية أنفسهم ودينهم وأوطانهم وترهب أعداءهم وتمنعهم من الاعتداء عليهم في قوله
تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60)، لم يحصر الله عز وجل إعداد
القوة في السلاح أو الأدوات العسكرية التقليدية فحسب.
فقد اشتمل قوله تعالى: (مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ) على كل ما يدخل في دائرة القوة بمختلف أشكالها
سواء كانت هذه القوة بشرية أو مادية أو علمية أو إعلامية أو حتى تكنولوجية.. وذلك
بقدر الاستطاعة والظروف.
ولعله يتبين هنا لأي مدى راعى التوجيه القرآني التطورات والتغيرات التي قد
تطرأ على أشكال الحروب في المستقبل، وأنها لن تكون في كل الأوقات على شكلها
التقليدي من اشتباكات مباشرة بين طرفين أو أكثر، وقد كان ذلك بالفعل إذ اختلفت
الحروب في أدواتها وطرق إدارتها من عصر لعصر.
بين الماضي والحاضر
لقد أضحى معلوماً أن معالم الحروب والصراعات العسكرية قد تغيرت في عصرنا
الحديث بشكل جذري بفعل التطور التكنولوجي الهائل، فكما شهدنا تحولاً في الأدوات
والتكتيكات العسكرية؛ إذ السيف أصبح بندقية أو مدفعاً، والحصان أصبح دبابة أو
مدرعة، كما استحدثت القذائف والطائرات والصواريخ المجنحة والباليستية، ثم كانت
المسيرات وغير ذلك، فلم يعد أيضاً عدد الجنود وطبيعة العتاد المعيارين الوحيدين
لاتخاذ القرارات بعد أن تعاظم دور كل من الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في
المعارك لما لهما من تأثير على العقول وصناعة الرأي العام بل وحتى إدارة الحروب
النفسية والمعلوماتية.
الذكاء الاصطناعي
ليس ثمة جدال حول أن هذا الدور الذي يقوم به الإعلام ووسائل التواصل
الاجتماعي في الحروب العسكرية، أو حتى المعارك السياسية والفكرية في الوقت الحالي
سيتعاظم أكثر وأكثر خلال المرحلة المقبلة أو فيما بات يطلق عليه «حروب المستقبل»،
إذ تعد هذه الحروب نمطاً من الصراعات التي ستتسم باعتمادها المتزايد على
التكنولوجيا المتطورة والإعلام والذكاء الاصطناعي والفضاء الإلكتروني بما يشتمل
على مواقع التواصل الاجتماعي والأسلحة ذات الدقة العالية، مع انتقال بؤرة الصراع
من ميادين القتال التقليدية إلى ميادين غير مادية كالمعلومات والفضاء السيبراني
والفضاء الخارجي والبيئة الاقتصادية والاجتماعية؛ ما يجعلها أكثر تعقيدًا وأشد
تأثيرًا على بنية الدول والمجتمعات.
الخداع الإستراتيجي
ربما كانت الوظيفة الأساسية للإعلام هي نقل المعلومات والأفكار والآراء إلى
الناس بوسائل مختلفة بهدف الإخبار والتوجيه والتوعية والتأثير في الرأي العام، وهو
ما كان له دور مهم للغاية في الارتقاء بوعي الناس وتثقيفهم بما يجري فضلاً عن
تسليتهم، غير أن هذه الوظيفة تطورت إلى حد كبير مع تطور وسائل الإعلام، فلم يعد
الإعلام ووسائله مجرد ناقلين للأحداث، بل أصبحوا لاعبين أساسيين فيها.
وهنا يمكننا القول وبلا أدنى مبالغة: إن امتلاك الرواية الإعلامية في أحيان
كثيرة يكون أهم من السيطرة على الأرض أو امتلاك القدرة العسكرية الأكثر تفوقاً؛
لأنه يمكن للطرف الذي يمتلك الرواية الإعلامية أن يكتسب التأييد الشعبي؛ ما يؤمن
الجبهة الداخلية، ويضمن وحدة الصف واستمرار الدعم، وهي عوامل لها أهميتها الكبرى
في القدرة على الصمود، فيما أنه يمكن من خلال هذه الرواية الإعلامية تحقيق الضغط
الدولي على الخصم؛ ما يؤثر سلباً بكل تأكيد على قدراته المعنوية والمادية.
ومن خلال الإعلام أيضاً، يمكن تضليل العدو عبر نشر معلومات وهمية أو مغلوطة؛
كإعلان تحرك عسكري في اتجاه وهمي، أو نشر شائعة عن استسلام قوات العدو، أو
المبالغة في القوة العسكرية وتصوير الجيش على أنه أقوى مما هو عليه عبر نشر صور
وفيديوهات تدريب وهمي أو امتلاك سلاح جديد لا وجود له.
كما يمكن للإعلام أن يؤدي دوره في تفتيت الجبهة الداخلية للعدو وبث رسائل
موجهة لجنوده لتحطيم معنوياتهم والعمل على التضخيم من الاختلافات الشعبية الداخلية
بين مذاهبه أو أحزابه أو طوائفه أو جماعاته الإثنية، فضلاً عن تسريب أخبار عن
خيانات أو فوضى في قيادات العدو، وإظهار أن قادتهم لا يهتمون بهم ويضحون بحياتهم
عبثاً.
ويساهم كل ذلك في صنع ما يطلق عليه «الخداع الإستراتيجي» الذي يهدف بالأساس
إلى دفع العدو للتصرف بناء على معلومات خاطئة فتعود نتائج سلوكياته بالسلب عليه،
كما أنها ترهب العدو نفسياً وتدفعه للتراجع أو فقدان الثقة فضلاً عن كسر الروح
القتالية عنده.
ومن النماذج الجلية للكشف عن توظيف الإعلام بشكل جيد في المعركة ما حدث
مثلاً في الحرب العالمية الثانية، عندما قام الحلفاء بعملية «فورتود» بشأن موقع
الغزو المرتقب، وكانت تهدف لإقناع الألمان بأن الغزو سيكون في مكان آخر غير شواطئ
نورماندي بفرنسا.
وأيضاً ما حدث في حرب أكتوبر حيث عمل الإعلام المصري قبلها على إظهار الجيش
وكأنه ضعيف وغير مستعد للحرب إلى أن حدثت الضربة التي انتهت بانتصار مصر.
تشكيل الرأي العام
يمكن لأي شخص بمجرد النظر إلى أرقام مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي حول
العالم أن يدرك إلى أي مدى أصبح لهذه المواقع أثرها في تشكيل الرأي العام، فقد
أشارت إحدى الإحصاءات إلى أن عدد مستخدمي هذه المواقع منذ بدأ موقعها الأول «Six Degrees» عام 1997م
وما أعقبه من مواقع أخرى كـ«فيسبوك» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«واتساب» و«تيك توك» و«تليجرام»
و«إكس».. وغيرها قد تجاوزوا نحو 5.24 مليارات نسمة؛ بما يمثل 63.9% من إجمالي عدد
سكان العالم.
وبقدر ما كان لاستخدام هذه المواقع من آثار إيجابية اجتماعياً وسياسياً على
واقع دول مستخدميها، بقدر ما يمكن أن تشكل سلاحاً فعالاً ذا حدين في أي معركة
عسكرية محتملة، إذ يمكن أن تكون أداة للتجنيد والاستقطاب والدفع للانحياز لطرف على
حساب طرف آخر من خلال تحويل منصات هذه المواقع إلى ساحات دعائية تنشر خلالها مقاطع
الفيديو القصيرة والمؤثرة والرسائل العاطفية وكل ما يدعم وجهة نظر بعينها.
كذلك يمكن أن يتخذ العدو مما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي مصدراً
للمعلومات، فتكون هذه المواقع منصة استخباراتية على مستويين؛ أولهما من خلال
المعلومات التي تنشر بشكل عشوائي من قبل المستخدمين المدنيين بدون قصد، وقد تكشف
عن مواقع وتحركات عسكرية، وثانيهما حول مشاعر الجماهير وما يمكن أن يستنبط بشأن
الروح المعنوية للمجتمع ومدى تماسك الجبهة الداخلية ومن ثم توجيه الوعي الجمعي
بذكاء.
ويتكشف جلياً دور مواقع التواصل الاجتماعي في حرب غزة، إذ تمكن النشطاء في
غزة من توثيق الأحداث مباشرة عبر هذه المواقع، الأمر الذي دفع بالشعوب في كل أنحاء
العالم إلى دعم حق الفلسطينيين والانتفاضة ضد الاحتلال «الإسرائيلي».