أسرار التلاعب السيكولوجي في تطبيقات التواصل الاجتماعي

نتساءل عن الزمن فيم مر، ونتذوق بعدما نعرف فيما أنفقناه طعم الندامة المر، ثم ما نلبث أن نعيد الكرة ويكأنه لا مفر، أليس هذا ملخص تجاربنا مع تطبيقات التواصل الاجتماعي التي لم تعد مجرد أدوات للتصفح والمشاركة، بل تحولت تدريجيًا إلى أدوات نفسية واقتصادية معقدة، تُصمم بعناية لاستدراج المستخدم وإبقائه أطول فترة ممكنة أمام الشاشة مما يساهم في تغذية سلوكٍ إدماني قائم على المكافأة والتكرار.

في هذا السياق، برز مفهوم «الإدمان المصمم» (Designed Addiction)، وهو مصطلح يشير إلى تصميم المنصات الرقمية بطريقة تستغل نقاط الضعف النفسية لدى الإنسان، والغاية من ذلك ليست تقديم محتوى أفضل أو تواصل أعمق، بل تحقيق أقصى قدر ممكن من الأرباح ضمن ما يُعرف بـ«اقتصاد الانتباه» (Attention Economy)، وهو السوق التي تُتداول فيها أثمن سلعة في عصرنا الحديث، وهي انتباه الإنسان، فكل تفاعل، وكل تمريرة، وكل إشعارٍ ليس صدفة، وإنما جزء من هندسة نفسية دقيقة تهدف إلى إبقائك متصلاً أطول فترة ممكنة، ولأن الإنسان بطبيعته يبحث عن القبول الاجتماعي كما أشار لذلك أستاذ إدارة الأعمال بجامعة هارفرد إيثان بيرنستين: الناس يحبون من يشكرهم، ومن يهنئهم، ومن يدعوهم، فإن المنصات توظّف هذه الغرائز الفطرية لدى الإنسان لصالحها.



آليات التلاعب النفسي في تصميم المنصات

1- التمرير اللانهائي (Infinite Scroll) وحلقة المكافأة المتغيرة:

ابتكرته في الأصل منصات مثل فيسبوك وتويتر، وهو من أكثر أدوات التلاعب فعالية، فبدل أن يتوقف المستخدم بعد مشاهدة عدد معين من المنشورات، تُعرض عليه سلسلة لا نهائية من المحتوى، قد تتضمن محتوى لا يتابعه هو أصلًا، هذا التصميم يحفّز ما يُعرف في علم النفس بـ حلقة المكافأة المتغيرة (Variable Reward Loop)، حيث يكون الجهاز العصبي متحفزًا باستمرار لمكافأة غير متوقعة قد تأتي في صورة (إعجاب أو رسالة أو منشور جديد)، وسواء أتت أم لم تأتِ فإن حالة الغموض والتربص في انتظار المكافأة تساهم في إفراز هرمون المكافأة الدوبامين، وأشرتُ إليه هنا بهرمون المكافأة لأنه على عكس ما أشيع عن ارتباطه بالسعادة فهو يفرز عندما يتوقع الإنسان حصوله على مكافأة، ونعم قد يزيد عند حصوله عليها، بيد أن ذروة إفرازه الحقيقة تكون عند انتظارها، فالدوبامين هو ما يحرّكنا نحو القيام بالأعمال ذات الجدوى، حيث يمكن أن نصفه بـ وقود الدافع الذي يجعلنا نسعى لتحقيق الأهداف، كما أوضحت ذلك الدكتورة آنا لِمبكي في كتابها أُمّة الدوبامين: البحث عن التوازن في عصر الإغراء.

تكمن المشكلة الأساسية في أن تطبيقات التواصل الاجتماعي استغلت الوقود وأخذت هي المقود فصارت تستغل هذا النظام الطبيعي عبر تقديم مكافآت سريعة ومتقطعة، كالإعجاب، والإشعار، ومحتوى سهل الاستهلاك)، مما يُعيد برمجة الدماغ تدريجيًا ليربط إفراز الدوبامين بالمحفزات السطحية والفورية بدل الجهود الطويلة أو الأهداف الحقيقية، ومن ثم يتعوّد الدماغ على طلب التحفيز الفوري، فيضعف الحافز الداخلي نحو الأنشطة ذات القيمة مثل الدراسة، أو العمل، لأنها لا تعطي جرعة دوبامين فورية كالتي تمنحها تلك التطبيقات، وهو ما يفسر عودتنا لها باستمرار، بالضبط كما يعود المقامر لماكينات الحظ، وصحيح أن الأولى مباحة والثانية حرام، غير أن كليهما يعتمدان نفس الطريقة في إيقاع الإنسان في شراكهما، ببساطة فإن تطبيقات التواصل الاجتماعي تعيد برمجة أدمغتنا مستغلة الأنظمة الموجودة فينا بالفعل لنقضي وقتًا أكبر على تلك التطبيقات.

2- الإشعارات والتكيف الشرطي:

تعتمد الإشعارات في تطبيقات التواصل الاجتماعي على نفس الآلية السابقة، بالإضافة إلى آلية أخرى سنتعرف عليها في الأسطر التالية.

في تجارب أجريت على فئران كانت توضع فيه صندوق يحتوي على منبهات ضوئية وصوتية وأماكن للطعام صار يُعرف فيما بعد بـ صندوق سكينر نسبة إلى العالم الأمريكي فريدريك سكينر والذي يُعد من أبرز مؤسسي مدرسة علم النفس السلوكي في القرن العشرين، واكتشف بعد تجاربه تلك أنه عند رُبط صوتٌ معين بقدوم الطعام، وتكرار هذا الأمر، يتعلم الفأر أن هذا الصوت يعني مكافأة قادمة، فيما صار يُعرف لاحقًا بآلية التكيّف الشرطي (Pavlovian conditioning) وفيها يربط الدماغ بين منبه معين (كصوت الإشعارات مثلًا) وحدث ذي معنى (وصول رسالة أو حصولك على إعجاب)، ومع الوقت يصبح الصوت وحده كفيلًا برفع معدل الدوبامين، وكلما أصبحت المكافأة غير مضمونة أو متقطعة، ازدادت استجابة الدماغ وأصبح السلوك أكثر ثباتًا، وهذا ما تحدثنا عنه آنفًا في حلقة المكافأة المتغيرة، وهذا يدفع المستخدم إلى التحقق المتكرر من التطبيق كما لو كان مقامرًا ينتظر ربحًا جديدًا، هكذا تتحول الإشعارات إلى أداة تلاعب عصبي تحفّز نظام المكافأة الداخلي في الدماغ، وتخلق ارتباطًا لا إراديًا بين الهاتف والشعور بالراحة المؤقتة.

فالإشعارات تعمل كإشارة أو صوت الجرس، والمكافأة تأتي على شكل إعجاب، تعليق، أو رسالة — أحيانًا يكون الإشعار ذا أهمية حقًا، وكثيرًا ما لا يكون، هذا الغموض الذي يكتنف توقيت المكافأة يجعل الدماغ في حالة ترقّب دائم، فيُفرز الدوبامين باستمرار، مما يدفع المستخدم إلى التحقق المتكرر من التطبيق كما لو كان مقامرًا ينتظر ربحًا جديدًا، هكذا تتحول الإشعارات إلى أداة تلاعب عصبي تحفّز نظام المكافأة الداخلي في الدماغ، وتخلق ارتباطًا لا إراديًا بين الهاتف والشعور بالتوقع والراحة المؤقتة.

لا يتوقف الأمر عند المؤثرات السمعية، بل يمتد كذلك إلى المؤثرات البصرية، فقد اختير اللون الأحمر خصيصًا لجذب الانتباه وإثارة القلق.

أظهرت ورقة بحثية نشرها باحثون من جامعة نيويورك وستانفورد ومايكروسوفت بعنوان يعبّر بوضوح عن موقفهم من القضية: الإدمان الرقمي أن عدم قدرتنا على كبح جماح أنفسنا عند رؤية هذه الإشعارات ساهم في ٣١٪من استخدامنا لوسائل التواصل الاجتماعي.

تأمل: نحو دقيقة من كل ثلاث دقائق نقضيها على وسائل التواصل هي وقت لم نكن نخطط لاستخدامه مسبقًا، ولا نشعر بالرضا عنه لاحقًا.

3- التلعيب (Gamification) وشارات المستخدم:

منح المستخدم شارات (كشارة معجب صاعد وأعلى المعجبين في فيسبوك)، برامج النقاط، أو رموز التفاعل مع المنشورات ليس بريئًا؛ بل يهدف إلى استثارة مركز المكافأة في الدماغ.

4- الخوف من الفوات (FOMO – Fear of Missing Out):

حالة دائمة من الخوف والقلق المزمن في كل لحظة لا يكون فيها هاتفك بيدك، أحداث تمر وأنت لا تدري عنها حتى وإن كانت عديمة الجدوى لك ومعظمها في الحقيقة كذلك، لكن منصات التواصل الاجتماعي نجحت في زرع تلك الحالة فينا، لدرجة أن جين توينغ أستاذة علم النفس في جامعة ولاية سان دييغو، ومؤلفة كتاب 10 قواعد لتربية الأطفال في عالم عالي التقنية، عندما سألت طلابها عن ذلك أخبرها الغالبية العظمى منهم أنها ينامون وهاتفهم بجانبهم — تحت الوسادة، على الفراش، أو على الأقل في متناول أيديهم، فكانوا يتفقدون وسائل التواصل الاجتماعي قبل النوم مباشرة، ويمدّون أيديهم إلى الهاتف فور استيقاظهم صباحًا (إذ يستخدمونه جميعًا كمنبّه، وبهذا، كان الهاتف آخر ما تقع أعينهم عليه قبل النوم، وأول ما يرونه عند الاستيقاظ، وإذا استيقظ أحدهم منتصف الليل، فإنه غالبًا ما ينتهي به الأمر إلى النظر في هاتفه، فقد حولت تلك المنصات تدريجيًا استعمالنا لها من اختيار لأسلوب حياة، وتحولت التسلية إلى قلقٍ دائم لدرجة وصلت إلى تقليل أنشطة أدمغتنا لمجرد تواجد هواتفنا في نفس حيزنا الفيزيائي حتى لو نكن نستخدمها.

5- الضغط الاجتماعي وفقاعة الترشيح (Social Pressure & Filter Bubble):

تعمل الخوارزميات على تعزيز المحتوى الذي يحظى بتفاعل عاطفي قوي، ويثير حالة من الغضب أو الجدل، ففي دراسة أجراها ويليام ج، برادي عام 2017 على نصف مليون تغريدة، وُجد أن كل كلمة عاطفية أو أخلاقية تزيد من انتشار التغريدة بنسبة 20%، كما أظهر مركز Pew Research Center أن منشورات الخلاف التي تغضب الناس تجذب ضعف التفاعل مقارنة بالمحتوى العادي، وهكذا يتحول الغضب إلى أداةٍ للترقي الاجتماعي، ويُعاد تشكيل الخطاب العام ليتناسب مع منطق الانفعال لا الحوار.

أما فقاعة الترشيح، فهي نتيجة لخوارزميات تقدم للمستخدم فقط ما يتوافق مع ميوله السابقة، مما يعزز الانغلاق الفكري والانحياز التأكيدي، فيظن أن العالم كله يفكر مثله في حين أن الخوارزمية هي من اختارت له مسبقًا من يفكر مثله لأن هذا سيدفعه لإمضاء وقت أكبر لتغذية إحساسه بأنه على صواب وأن لرأيه مؤيدين، فقد تظن أنك تختار بحرية، بينما في الحقيقة أنت تتحرك داخل دائرة محددة مسبقًا تم تصميمها خصيصًا لك في تلاعب سيكولوجي واضح لزيادة التفاعل بأي ثمن، حتى لو كان الثمن نفسيًا واجتماعيًا.

وإليك مثالًا على مدى قدرة، بل وتلاعب تلك الشركات بالفعل: في عام 2014م أجرى فيسبوك تجربة تلاعب فيها بالمشورات التي تظهر لـ689 ألفًا من مستخدميه ليقيس تأثير ما يقرؤونه على حالتهم المزاجية، سواء سلبًا أو إيجابًا، لم يكن مثار الجدل الوحيد هو أن فيسبوك لم تأخذ الموافقة من المستخدمين على إجراء التجربة عليهم، وإنما المشكلة في اقتراف شركة عملاقة لذلك بأن تؤثر على مزاج عدد مهول من الناس بشكل تلقائي من خلال التحكم فقط في خوارزميات الموقع. وهذا المثال قد ورد في كتاب حكم السعادة بتصرف.

دليل المستخدم لاستعادة السيطرة

الخطوة الأولى نحو التحرر من هذه الآليات هي الوعي، وإدراك أن ما نراه ليس مصادفة، بل نتيجة تصميمٍ متقن، خلفه شركات لا يثنيها عن سلب عمرك شيء سوى إرادتك.

نصائح عملية فعّالة:

1- إدارة الإشعارات: عطّل كل ما هو ليس ضروريًا، لا تدع الهاتف يقرر متى تنتبه.

2- خلق حواجز مادية: أبقِ الهاتف خارج غرفة النوم أو بعيدًا عن متناولك أثناء العمل.

3- استخدام أوضاع الشاشة: فعّل الوضع الرمادي لتقليل الجاذبية البصرية للمحتوى.

4- تحديد الوقت: استخدم أدوات مراقبة الاستخدام لتعيين حدود يومية واقعية.

5- الاستعاضة بالأنشطة الواقعية: مارس أنشطة بديلة تُنتج دوبامين طبيعيًا؛ كالمشي، القراءة، أو اللقاءات الاجتماعية الحقيقية.

واعلم أن كل إجراء بسيط هو مقاومة واعية لاقتصادٍ يسعى لاستنزاف انتباهك حتى آخر لحظة يقظة.

من التلاعب إلى الوعي

لقد صُممت المنصات الاجتماعية لتُبقيك منشغلًا، لكنها لا تملك السيطرة على وعيك ما دمت تدرك كيف تعمل، إن فهم آليات التلاعب السيكولوجي في تصميم مواقع التواصل الاجتماعي هو الخطوة الأولى نحو استعادة الذات من قبضة إدمان السوشيال ميديا، وفي النهاية، علينا أن نعيد صياغة علاقتنا بهذه المنصات، وذلك من خلال استخدامها بوعي لا كردّ فعل، وأن نتذكر أن الانتباه الذي نمنحه ليس مجانيًا بل هو رأس مالنا النفسي، فاستخدم المنصة، ولا تدعها تستخدمك، ابدأ اليوم بخطوةٍ صغيرة نحو الوعي: أغلق إشعارًا، وضع هاتفك جانبًا، وتجهز لاستعادة عقلك من اقتصادٍ لم يترك لنا سوى شاشاته.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة