نزيف العقول يلاحق عالمنا العربي

د. مجدي سعيد

09 نوفمبر 2025

52

منذ أن خرج المحتل الأجنبي من بلادنا العربية، انتظر المواطن في هذه البلدان أن يرى تنمية ونهضة بلاده التي تغنيه عن الغربة وعن ترك وطنه؛ إما بحثاً على لقمة عيش، أو بحث على مستقبل أفضل عبر دراسة جامعية أو عليا، وعبر مستقبل مهني ومستوى معيشي أفضل له ولأسرته، وهو ما لم يحدث، الأمر الذي دفع الناس، وخاصة من الشباب إلى الهجرة لأوروبا وأمريكا الشمالية.

وبعد أن كانت موجات الهجرة يغلب عليها أصحاب الياقات الزرقاء من العمال، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، صارت بداية من السبعينيات يغلب عليها الكفاءات من خريجي الجامعات العربية.

تعود أسباب تلك الهجرات إلى عدة مجموعات من الأسباب، تأتي في مقدمتها الأسباب الاقتصادية، وخاصة ارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الأجور، والتقدم الوظيفي المحدود، وسوء ظروف العمل، وانخفاض الاستثمار في الصناعات التكنولوجية المتقدمة، ثم تأتي الأسباب السياسية حيث واجهت الشعوب حالات من عدم الاستقرار السياسي، وأنظمة يسودها الاستبداد والفساد والمحسوبية، الأمر الذي عزز لدى الشباب الإحساس بانعدام الحرية والأمان.

يضاف إلى ذلك انخفاض نصيب قطاعات التعليم والبحث العلمي من الناتج المحلي لبلدان العالم العربي؛ وعليه، فإن مؤسسات التعليم والبحث العلمي لم تتطور، ولم ترتق لتلاحق التطورات في تلك المجالات، وبالتالي فإنها قصرت عن أن تلبي تطلعات الشباب، وقد كان لازدياد وتيرة تلك الهجرات على مر العقود آثار سلبية على معدلات التنمية في بلادهم.

هجرة متزايدة

في العقد الأخير بوجه خاص، انتشرت قصص نجاح الشباب الذي انتقل للدراسة أو العمل المهني في الخارج، وأصبحت تلك القصص ملهمة للآلاف غيرهم من الشباب ومغرية لهم كي يحذو حذوهم، خاصة مع وجود مؤسسات شكلها أصحاب قصص النجاح تلك ليساعدوا بها غيرهم على الحصول على منح دراسية خارج حدود العالم العربي، وفي كثير من الحالات يتبع الدراسة بالخارج الحصول على فرص عمل أكاديمية أو بحثية أو صناعية، كل في مجاله بالخارج أيضاً، وهو ما قد يؤدي لحرمان بلادنا من أنجب عقولها، إلا إذا عادت تلك الكفاءات بعد أن تسلحت بالعلم والخبرة إلى بلادها وساهمت في تنمية ونهضة بلادها، وهو ما قد يتوقف على عوامل كثيرة تتنازع تلك الكفاءات بين عوامل الشد والجذب على جبهتي أوطانهم الأصلية والبلاد التي استوطنوها في دراساتهم وأعمالهم.

وقد طور موقع «The Global Economy» مؤشراً عالمياً لهجرة البشر ونزيف العقول على مقياس من 1 إلى 10، وعلى هذا المقياس كانت بلد مثل مصر –على سبيل المثال– تحوز على 6.2 درجات في معدل الهجرة ما بين عامي 2007 و2009م؛ ما يعني معدل هجرة كبيراً مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 4.98.

وتشير ورقة بحثية أعدها خضير عباس الندواي، منشورة عام 2007م، إلى أن 100 ألف إنسان عربي من أرباب المهن من العلماء والمهندسين والأطباء والخبراء يهاجرون سنوياً من لبنان وسورية والعراق والأردن ومصر وتونس والمغرب والجزائر، وقد بلغ إجمالي من هاجر إلى الولايات المتحدة فقط منذ عام 1977 إلى عام 2007م ما مقداره 750 ألف عالم.  

وعودة إلى مصر، فقد شهد معدل الهجرة انخفاضاً ما بين أعوام 2009 و2015م ليصل إلى أدنى مستوياته بمعدل 4.4، ثم ليعاود الصعود مرة أخرى، إلى عام 2020م، ثم ليشهد انخفاضاً طفيفاً حيث وصل عام 2024م إلى 4.7.

ويمكن قياس الحال في مصر على باقي البلدان العربية، التي قدمت مجتمعة الملايين من أبنائها عمالاً ومهنيين ممن ساهموا في بناء الكثير من بلدان العالم من اليابان شرقاً إلى أمريكا الشمالية غرباً، ولا شك أن هذا الوضع مرشح للاستمرار.

خطط استثمارية

لكن إذا أردنا أن تقل مؤشرات الهجرة تلك، أو أن يكون لمن يهاجرون إسهام أكبر في تنمية ونهضة بلدانهم، فلا بد من خطط بعيدة المدى مبنية على زيادة عوامل جذب العقول المهاجرة، من زيادة الاستثمار في رفع كفاءة التعليم، والوصول به إلى العالمية، وهذا لن يتأتى فقط بزيادة أعداد الجامعات، ولكن بمدى كفاءة ما تقدمه كل جامعة من بحوث علمية، ومدى مساهمة تلك البحوث في حل المشكلات وتلبية الاحتياجات التنموية الحقيقية التي تواجه الصناعة والزراعة والخدمات، وهو ما ينبغي أن ينعكس على ارتفاع عدد براءات الاختراع التي تقدمها كل جامعة، وهذا لن يتأتى إلا برفع ميزانيات البحث العلمي، ومساهمة الجامعات والمراكز البحثية في البحوث والتطوير الخادمة للأنشطة الاقتصادية للدولة، وفي المقابل، مساهمة المؤسسات الصناعية والزراعية والخدمية في تمويل البحث العلمي.

لكن يبقى أهم تلك العوامل والمتمثل في تحسين مستوى الحريات وحقوق الإنسان في بلداننا، حينما تنظر تلك البلدان إلى كل ابن من أبناء الوطن، سواء كان داخله أو خارجه على إنه «أصل» من أصول هذا البلد، و«ثروة» لا يمكن التفريط فيها، وإن اختلفت الآراء ووجهات النظر حول الأمور المختلفة، وليس العكس.

يضاف إلى ذلك أن تكون هناك سياسات مالية واقتصادية مستقرة تشعر أبناء تلك الأوطان أن أموالهم واستثماراتهم وشركاتهم الناشئة التي يؤسسونها في بلدانهم لن تكون في مهب الريح، بسبب هذه السياسة أو تلك، وبغير ذلك كله فسوف يبقى الوضع على ما هو عليه، وعلى المتضرر أن يستمر في التباكي على نزيف العقول.


اقرأ أيضاً:

هجرة العقول العربية.. أين الخلل؟!

"الغارديان": أطباء العراق في خطر ويفكرون بالهجرة

الإبادة المعرفية.. كيف تُفرَّغ المجتمعات الإسلامية والعربية من علمائها؟

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة