الصبر في القرآن.. ديناميكية إيجابية للنهوض والتغيير

د. مي سمير

25 سبتمبر 2025

79

تشيع الدعوات التي تنادي بالصبر في عصور الأزمات، ولكثرة استفحال أزمات أمتنا بات الصبر مطلباً للجميع، واستشْرت الخطابة حول مميزات الصبر وطرائق الجلد في مواجهة الشدائد والمحن التي تعصف بنا من كل حدب وصوب، لكن الفهم الشائع أو المراد له أن يشيع حول الصبر قد حول المفهوم إلى فعل سلبي يرادف الانتظار والثبات والعزوف عن الإتيان برد فعل، وهو مخالف بشكل كبير للفهم من منظور الوحي القرآني.

وإن للصبر في ميزان الوحي القرآني قدراً عظيماً ومكانة بالغة، لكنه يختلف بشكل كبير عما يعتقده الناس حول الصبر الخامل غير المؤدي إلى أي تغيير، والذي يساوي المشاهدة الصامتة لما حول الفرد من منكرات وسوءات، بل ولما في داخله من خطايا وانحرافات، وهو ما يتطلب فهماً صحيحاً لمعنى الصبر وآلية تفعيله في نفوس المؤمنين بما يحقق مراد الوحي الذي أعلى من قيمة الصبر وخصه بإسهاب كبير في الخطاب القرآني.

معنى الصبر

وإذا تتبعنا معنى الصبر في تعريفاته المعجمية نجد بأن معانيه متنوعة، ولكن أدناها معنى من الصبر في المنظور القرآني هو الصبر بمعنى: حبس النفس عند الجزع أو المصيبة، كما يشير ابن منظور في «لسان العرب»، والصبور من أسماء الله الحسنى التي تعني أنه سبحانه لا يُعاجل العصاة بالانتقام، ويفرق ابن منظور بين صفة الله الحليم والصبور بأن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها في صفة الحليم.

آيات الصبر في القرآن الكريم

وطبقاً للإمام الغزالي في مؤلفه الضخم «إحياء علوم الدين»، فإن آيات الصبر قد تجاوزت 70 آية، وإذا ما أحصينا الصبر في صيغة الاسم «صبر»، وصيغة الفعل مثل «اصبر» و«اصطبر»، وصيغة الصفة «الصابرين»، فقد تجاوزت 90 موضعاً في الكتاب الكريم، وهو مؤشر مهم لجوهرية فضيلة الصبر في الوحي القرآني، حتى قيل: إن الصبر نصف الإيمان، فكيف يمكن للصبر أن يصبح منهجية إيمانية إنتاجية باعثة على العمل على عكس الخطاب الشائع في يومنا هذا؟

وكثيرة هي فضائل الصبر التي أوردها القرآن الكريم لحث المؤمنين على توطينه في نفوسهم وأفعالهم، وما يلفت النظر هو الكيفية التي ورد بها الصبر في خطاب الوحي مشفوعاً بحض على الفعل، وليس كأمر بالثبات أو الجمود، وفي كافة مناحي العبادات والمعاملات بما يجعل الصبر ركناً إيمانياً وفعلاً إيجابياً ممتداً يلازم المؤمن في كافة أحواله، ودافعاً دائماً للفعل والتفاعل مع العالم من حولنا لا دعوة تغييبيه للانعزال والانكفاء.

أنواع الصبر وأدواره في حياة المؤمن

هذا الصبر الإيجابي يدفع المؤمن ليؤدي مجموعة من الأدوار المهمة التي لا تتأتى بدون فضيلة الصبر، ومنها:

1- العبادة: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ) (البقرة: 44):

فقد ورد الصبر والصلاة في غير موضع متلازمان، وقد فسر البعض الصبر في تلك الآية بأنه الصوم، بينما رأى آخرون بأنه الصبر في معناه العام على العبادة وخاصة عبادة الصلاة؛ لأنها عماد الدين وأهم الفرائض الإسلامية بعد الشهادة، وفي ذلك يصبح الصبر قدرة متجددة على أداء العبادة ودافعاً للاستدامة في السعي إلى الالتزام بالأوامر والنواهي، ولذلك قال الإمام علي رضي الله عنه: لا إيمان لمن لا صبر له.

2- طلب العلم: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) (الكهف: 68):

يخبرنا الهدي القرآني بالعلاقة المتينة فيما بين طلب العلم والصبر؛ إذ من المتعذر على الجاهل بالأمور أن يصبر على رحلة التعلم الشاقة والطويلة، ولذلك فإن الإسلام قد حض على طلب العلم وجعله بمنزلة الجهاد في سبيل الله لما يقاسيه الساعي إليه من مشقة تطلب صبراً ومثابرة، وهو ما التزم به نبي الله موسى عليه السلام في تعلمه على يد العبد الصالح، فرغم عدم إحاطته بدوافع سلوكيات العبد الصالح، فقد صبر على ذلك بأن شارك في الترحال والمصاحبة ومراقبة الأفعال ليتعلم وإن لم يوافق على تلك الأفعال أو يؤيدها.

3- المعاصي: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد: 22):

يربط الخطاب القرآني فيما بين الصبر عن المعصية والصبر على الطاعة في تلك الآية الكريمة، فالصبر عن الهوى وارتكاب الذنوب هو الباعث نحو تنقية القلوب وتزكيتها في سبيل العبادة والتقرب إلى الله.

الصبر وآليات الدفاع النفسي

وبهذا المعنى الإيجابي للصبر والباعث نحو الحركة والتفاعل، يصبح الصبر آلية نفسية فردية وجماعية شديدة الأهمية كرافعة للنجاح والنمو الشخصي، إذ يقدم الصبر تقنية نفسية دفاعية لدى الفرد أمام الفتن والأزمات: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155)، هذه القدرة على الثبات في وجه المشكلات سواء على صعيد الفرد أو الجماعة يربي أمة مثابرة قادرة على طلب أسباب التقدم والازدهار والصبر على الوصول لتلك النتائج، عوضاً عن انتظار «المخلص» أو «الحل السحري» الذي سيهبط من السماء تحت دعاوى الصبر السلبية الزائفة.

ويمكن لتلك الآلية الدفاعية النفسية أن تؤتي ثمارها في استقرار نفساني راسخ لدى الفرد بتطوير قدرته على الصمود والصلابة، ويشكل ذلك حجرَ أساسٍ لأي إنسان يسعى إلى النجاح في التعليم أو العمل أو الحياة، ونتيجة لتراجع تلك الخاصية في مجتمعاتنا العربية وخاصة لدى الأجيال الجديدة نجد بأن استشراء الهشاشة النفسية ونفاد الصبر قد تسبب في تراجعنا في التصنيفات العلمية، وارتفاع نسب الطلاق وتراجع الالتزام الأخلاقي وغيرها من الأمراض الفردية والجماعية التي تشير إلى تراجع قيمة الصبر كقدرة على الإصرار والاستمرار.

الصبر رافعة مجتمعية

وعلى الصعيد الاجتماعي، يقدم الصبر إستراتيجية ديناميكية لتحفيز الصلابة في الحروب أو المحن: (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) (آل عمران: 120)، وهي القيمة التي تمكن الصحابة والمسلمون الأوائل استناداً إليها من تحمل الأذى ومواجهة المؤامرات على الدعوة الإسلامية حتى نجحوا في إقامة حضارة مترامية الأطراف وشديدة الثراء ازدهرت وبعثت بضيائها عبر بقاع الأرض.

وأخيراً، فإن الصبر في منظور الوحي القرآني ليس سكونًا داخليًا ولا انعزالًا عن الفعل، بل هو قوة حية تدفع المؤمن إلى العبادة والجهاد والعمل، إنه طاقة فردية تُعين على الثبات، وقوة جماعية تُسهم في بناء الحضارة، فالصبر هو الجسر الذي تعبر به الأمة من الفتن والشدائد إلى آفاق النهضة، وهو الوقود الذي يحول المحنة إلى منحة، والعجز إلى عمل متجدد.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة