الزواج السعيد.. لمحات من أسسه

رقية محمد

29 يوليو 2025

193

في زمن كثرت فيه التحديات الأسرية، وتزايدت فيه معدلات الخلاف والانفصال، يضيء الإسلام الطريق نحو حياة زوجية مستقرة، عمادها السكينة، وغطاؤها الرحمة، وأساسها المودّة، فالزواج في الإسلام ليس مجرد عقدٍ يُبرم، وإنما ميثاق غليظ، وشراكة وجدانية ومادية وروحية، لا تزدهر إلا بتحقيق مقومات ثابتة رسمها الشرع الحنيف، وربّى عليها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بفعله وقوله.

1- وحدة الوجهة بين الزوجين:

هذا أساس ثبات الارتباط بين الزوجين وعمقه، فإن السعادة الزوجية لا تكمن في أن يتطابق الزوجان في كل فكرة أو هواية -فهذا من المستحيل البشري- وإنما في أن يتحدا في الوجهة، ويشتركا في الهدف المركزي لحياتهما، كأن يبنيا بيتًا مسلمًا، عامرًا بالإيمان، منطلقًا من الدنيا ليحطّ رحاله في الجنة، فبذلك تنكمش الخلافات الصغيرة، وتهون التحديات اليومية بشكل تلقائي.

فالوحدة في الوجهة تصنع للحياة الزوجية قيمة عليا، ويعين كل منهما صاحبه على ابتلاءات الحياة، وما كان من أمنا خديجة رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا مثال عظيم على هذا العامل، فقد كانت أول من صدّقه وواساه وتحمل معه أعباء الدعوة، وبقيت على ذلك حتى ماتت رضي الله عنها وأرضاها.

إنّ وحدة الوجهة بين الزوجين ليست رفاهية فكرية، وإنما حبل النجاة وقت الفتن، وجسر العبور عند الابتلاءات، فتربية الأولاد تصبح عبادة، والصبر على المرض يصبح طاعة، وحتى الفقر يُحتمل لأنه جزء من الطريق إلى الله.

 

هل تختار الخوارزميات زوجات المستقبل؟! |  Mugtama
هل تختار الخوارزميات زوجات المستقبل؟! | Mugtama
مع التطور المتسارع للتقنية، لم يعد موضوع الزواج ح...
mugtama.com
×


2- لا تمدن عينيك:

إن مقاومة المقارنة وحفظ البصر والقلب من التطلع لما في يد الناس؛ ليس فقط خلقًا نبيلًا، وإنما أمان وحصن يحفظ استقرار البيت؛ المودة والمحبة بين الأزواج، فمن أكبر معاول هدم السعادة الزوجية في هذا العصر ما يحدث من تطلع دائم لما في يد الغير، والمقارنة بين ما يملك الفرد وما يملكه الآخرون.

في زمن «السوشيال ميديا»، لا يُعرض إلا «المثالي»؛ ابتسامة مصطنعة، وهدية مصورة، ورحلة مُنتقاة، وكلمات تُصاغ لا تُعاش، فتقع النفس في فخ المقارنة، ويصبح الزوج الصابر أقل من الزوج المحمل بالهدايا، والبيت المطمئن أضعف من الفيلا المنشورة، والحياة الزوجية الواقعية بتحدياتها والجهد للحفاظ عليها أتعس من الحياة الزوجية الافتراضية!

لكن القرآن سبق كل ذلك بخطاب يعالج أصل الداء، حين قال تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (طه: 131)، إنها دعوة لحماية القلب من الانشغال، والعين من التطلّع، والنفس من التكدّر، فما تراه من الخارج ليس الحقيقة دومًا، وما خفي من تفاصيل البيوت أعظم.

3- التقدير وقود المودة:

من أعمق ما يغذي الرابطة بين الزوجين ويمنحها الحياة والدوام التقدير المتبادل، ذلك الشعور بأنك مرئي، مفهوم، غير مُهمَل ولا مُسلّم به كأمر واقع، الثقة بأن ما تبذله لن يستهين به الطرف الآخر، وأن تعبك له نتيجة، تتجدد طاقتك، ويزهر عطاؤك، فالكلمات البسيطة مثل: «أقدّر تعبك اليوم»، «أعلم أن يومك كان مرهقًا»، «جهودك محل امتنان».. تُحدث في النفس أثرًا لا تُحدثه عشرات الطلبات أو العتابات.

أما حين يُهمل التقدير، ويقلل من شأن الطرف الآخر، يبدأ كل طرف في الانكماش الداخلي، ويُثقل عليه ما كان يفعله بحب، ويشعر بأن مشاعره لا تُحتَرم، ولا جهده يُحتفى به، وإن في العلاقات الزوجية الناجحة لا يكون التقدير ترفًا، بل ضرورة، فيقدر الرجل تعب زوجته في أعباء المنزل، وكذلك تقدر الزوجة ضغوط زوجها في السعي للرزق، ويقدر كلا منهما مشاعر الآخر، فحين يسكن كل طرف في قلب الآخر بالتقدير، يسهل عليهما اجتياز الخلافات، وتزدهر بينهما المودة.

4- الدعاء والاستعانة:

الدعاء سرّ التوفيق بين الزوجين، ووسيلة لتصريف القلوب إلى الخير، خاصة في أوقات الفتن والابتلاءات.

إن الزواج ليس مجرد شراكة بين جسدين، وإنما رباط بين روحين لا يستقيم إلا إذا استند إلى قوة عليا؛ قوة الدعاء، قال تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل: 62).

ومن أصدق اضطرارًا من زوجٍ أو زوجة يتمنيان صلاح الحال، ودوام السكينة، وبقاء المودة؟!

 

أعياد الإسلام.. وعبادة السعادة! |  Mugtama
أعياد الإسلام.. وعبادة السعادة! | Mugtama
ينطلق تصور الديانات المحرفة والأديان الوضعية للعبا...
mugtama.com
×


5- الاجتماع على الطاعة:

الزواج في الإسلام ليس مجرد إشباع جسدي، وإنما عهد تُبنى فيه الأرواح، وتتربى فيه القلوب، وإن أعظم ما يزكي هذه العلاقة هو الاجتماع على الطاعات، اقتداءً بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوقظ زوجاته لصلاة الليل، ويحثهن على الذكر والدعاء، وكان بيته منطلقًا لكل عبادة.

6- مراعاة الاحتياجات العاطفية والجسدية:

الحياة الزوجية ليست مجرد سكنٍ ظاهري أو تآلف اجتماعي، بل هي علاقة إنسانية عميقة تُلبي احتياجات النفس والجسد معًا، فلكلٍّ من الزوجين احتياجات فطرية مشروعة -سواء كانت عاطفية كالحب والاحتواء، أو جسدية كالعلاقة الحميمية- وهذا الفهم يُجنب العلاقة بينهما الكثير من الجفاف والتوتر، ويمنحها حيوية ودفئًا دائمًا، وقد وصف القرآن الكريم الزواج باللباس لشدة الملاصقة بين الزوجين، قال تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) (البقرة: 187)، واللباس لا يكون إلا قريبًا، ساترًا، مُريحًا، دافئًا، ولا تكتمل العلاقة إلا إذا احتضنت الجوانب النفسية والجسدية والعاطفية كلها في تناغمٍ راقٍ متبادل.

إن الزواج ميثاق بين روحين تجمعهما نية صادقة لبناء بيت يرضي الله، وتعلو فيه القيم، وتُروى فيه المشاعر، وتُحتضن فيه القلوب، ومهما تعددت التحديات، فإن الزوجين حين يتكئان على الإيمان، ويتزوّدان بالمودة، ويتعاملان بالتقدير والحوار، ويتشاركان في الطاعة والدعاء؛ يُرزقان سعادة لا تهبها الدنيا وحدها، بل تنبت في الأرض وتثمر في الجنة، فالسعادة الزوجية لا تُهدى، بل تُبنى لبنة لبنة.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة