زمن «الفضيحة الحلال».. من همس الإفك إلى فوضى التسريبات!

بين الماضي والحاضر، يتكرر المشهد؛ الفضائح تتحول إلى سلعة، والستر إلى تهمة، والمجتمع يراقب بعيون مفتوحة لا تعرف الرحمة، فلم يعد الناس اليوم يتسامرون على الحكايات، بل على المقاطع.

كلّما انكشفت عورةٌ على الشاشة، ازدحم الفضوليون حولها كمن يقف على أطلال بيتٍ تهدّم، يلتقطون الصور، ويُبدون الرأي، ويعيدون النشر، حتى غدت الفضيحة طقسًا اجتماعيًا متكرّرًا، لا يُستنكر إلا إن فاتت المشاهدة!

إنها حضارة المكشوف؛ زمنٌ صارت فيه الأسرار العامّة مباحة، والأسرار الخاصّة معروضة للبيع، وصار الهاتف الذي نحمله في جيوبنا شاهدًا وشريكًا ووسيطًا.

لم تعد الكلمة أداة تواصل، وإنما سكّين رقمية يجرّبها الجميع على وجوه الجميع.

من «حادثة الإفك» إلى الفوضى الرقمية

في المدينة المنوّرة قبل 14 قرنًا، زلزلت كلمةٌ واحدة بيت النبوّة والمجتمع كلّه، حتى أنزل الله فيها قرآنًا يُتلى إلى يوم الدين؛ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (النور: 15).

كانت تلك من «شائعات» عصر النبوّة، لكنها لم تُنشر على موقعٍ أو تُسوّق عبر منصة، بل دارت همسًا بين الألسن، ومع ذلك اعتبرها الوحي خطرًا يهدد البناء الأخلاقي للأمة.

واليوم.. حين يُلقى بالصور والمقاطع في فضاء لا ينام، دون تثبّت أو وازع، ألا يبدو المشهد أشد خطرًا؟

لقد تبدّلت الوسائل، لكن الخطيئة هي هي؛ نقل بلا علم، وتداول بلا وعي، وفرحٌ بخطيئةٍ ليست لنا.

تديين الفضيحة!

في زمن الالتباس، أصبح بعض الناس يلبّسون الشهوة ثوبَ الغيرة، والفضيحة لباسَ النصيحة.

يقول أحدهم: ننشر لنعظ، وآخر: نفضح لنحذّر، وثالث: الناس لها حقّ أن تعرف.. وهكذا تتوارى النوايا خلف شاشاتٍ لامعة، ويغيب جوهر الدين الذي قال نبيّه صلى الله عليه وسلم: «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة».

الستر في ديننا ليس ضعفًا ولا تواطؤًا، بل قوة تحفظ المجتمع من السقوط الجماعي، أما الفضيحة فهي كالرائحة الفاسدة؛ قد تجذب الأنوف، لكنها تلوّث الجوّ كله.

إن النصيحة التي تُنشر على الملأ تفقد بركتها، وتتحوّل إلى شهوة سلطة أو انتقام مقنّع باسم الدين.

صالون الغيبة العالمي

لم تعد الغيبة تحتاج إلى مجلس مغلق، فاليوم هناك مجلسٌ مفتوح في كل هاتف، وملايين المقاعد الافتراضية تحجزها التعليقات والإعجابات والمشاركات.

في دراسة حديثة صدرت عن «الاتحاد الدولي للاتصالات»، تبين أن أكثر من 60% من مستخدمي الإنترنت العرب يشاركون أو يعيدون نشر مواد خاصة دون إذن أصحابها، وأن أكثر من نصف تلك المواد تتعلق بقضايا أخلاقية أو شخصية؛ أي أننا نعيش في زمن يتداول فيه الناس أعراضهم كما يتداولون الأخبار العاجلة.

لقد صار الإعلام الجديد حلبة مصارعة أخلاقية؛ لا ينتصر فيها من يقول الحقيقة، بل من يملك تسريبًا أشرس، أو فيديو أكثر صدمة، وتحوّل المتلقي من مشاهدٍ إلى قاضٍ رقمي متسرّع يصدر أحكامه في ثوانٍ، دون أن يرى وجوه من يحكم عليهم.

حين يُدار الشرّ بالربح

لم تعد كلّ فضيحة نابعة من غضبٍ شعبي أو فضولٍ بشري؛ فبعضها يُدار من غرفٍ مغلقة تُحسب فيها نسب المشاهدة قبل أن تُحسب الذنوب، والسياسيون يوظّفونها لضرب الخصوم، والإعلام التجاري يستخدمها لرفع الأرقام، وبعض صانعي المحتوى يعيشون على رزق الفضيحة؛ كلّما هبطت نسب التفاعل أطلقوا تسريبًا جديدًا ليُبقي النار مشتعلة!

يبرّر هؤلاء فعلهم بأنهم يكشفون الحقيقة أو يواجهون الفساد، بينما الحقيقة أنهم يستثمرون في عورات الناس، وهم –من حيث لا يشعرون– يشبهون من وصفهم الله بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور: 19)؛ إن الآية وكأنها تصرخ لتؤكد أن الفضيحة ليست أبدا طريقًا للإصلاح، كما أن النار ليست طريقًا للتطهير؛ ولذلك فإن من جعل الفضيحة وسيلته إلى الوعي، بدأ الإصلاح من جهنّم.

موت الستر.. وصعود الفضيحة

لقد تغيّرت اللغة حتى صار من يستر يُتَّهم بالتواطؤ، ومن يفضح يُقدَّم بطلاً، وتحوّل الحياء إلى تهمة اجتماعية، تُقابل بالسخرية أو الإلغاء.

والمشكلة ليست في المنصّات، بل في النفوس التي وجدت في العُري الأخلاقي مساحةً للشهرة؛ حيث إن موت الستر يعني ولادة مجتمعٍ بلا أمان، حيث الكلّ يراقب الكلّ، والناس يعيشون على الحافة، يخشون الكاميرا أكثر مما يخشون الله.

شجاعة الصمت

في زمنٍ يُقاس فيه الوجود بعدد المشاهدات، يصبح الصمت بطولة، وفي عالمٍ يلهث خلف كشف العورات، يصبح الستر جهادًا خفيًا، بل إننا نحتاج إلى أن نعيد تعريف الشجاعة، فهي ليست الكلام في كلّ ما يُقال، بل الصمت حين يكون الكلام جريمة، والستر لا يحمي المذنب وحده، بل يحمي المجتمع كله من دورة التشهير التي لا تنتهي، ومن يستر اليوم قد يكون هو غدًا من يُستر عليه.

نحن نعيش زمنًا يتبدّل فيه ميزان الأخلاق بسرعة الإنترنت، لكنّ بقاء الدين في القلوب مرهونٌ ببقاء الحياء فيها، ولعلّ أخطر ما في زمن الفضيحة الحلال أنه جعل الحرام يبدو نُبلًا، وجعل الستر خيانة.

فهل آن أن نعيد الحياء إلى الواجهة، قبل أن نعتاد العُري فلا نراه؟



اقرأ أيضاً:

تسريبات المدينة المنورة.. المشهد الأخطر!

قراءة الغزالي في فضيحة «إبستاين»

التسريبات الإباحية.. الآثار وطرق المواجهة

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة