الحِجاج القرآني وطريق الإقناع الأقوم

محمد الحداد

27 أبريل 2025

167

في ظل انتشار ثقافة المناظرات والمجادلات والمناقشات التي أصبحت غالبة في واقعنا المعاصر حتى يبذل البعض لأجلها أكثر وقته؛ وجب أن يستلهم المسلمون الطريق القرآني في الجدال؛ فيعيِّنوا هدفه، ويعرفوا المشروع منه والممنوع، وأن يقفوا على خصائص الحِجاج القرآني، ويستذكروا أمثلته.

الجدال المشروع وغير المشروع:

جاء الجدال في القرآن مذمومًا في أكثر الآيات التي ذكرته، منها قوله تعالى: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (غافر:4)، وقوله تعالى: (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) (غافر:5)، ولكنه سبحانه وتعالى أمر به نبيه ﷺ على وجه بعينه، فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125)، ورخص فيه لجماعة المؤمنين فقال عز وجل: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (العنكبوت:٤٦)، ويُفهم من هذا أن الجدال المشروع هو الذي كان على وجه حسن، بخلاف غيره مما ورد فيه الذم والنهي.

 

آيةُ الكرسيّ والمبدأُ الجوهريّ |  مجلة المجتمع الكويتية
آيةُ الكرسيّ والمبدأُ الجوهريّ | مجلة المجتمع الكويتية
في عالم النُّظُم لا يوجد من المبادئ ما يمكن أن يع...
mugtama.com
×


بين الجِدال والحجاج:

والأصل حرمة الجدال لما يكون فيه من شحذ المناظرين جهدهم في طلب الغلبة والعلو، وتتأكد الحرمة إن كان بين أهل الإيمان، وكثر كلام سلف الأمة في جميع طبقاتهم في ذم الجدال، فروي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنهما قال: «لا تمارِ أخاك؛ فإنَّ المِراءَ لا تُفهَمُ حِكمتُه، ولا تُؤمَنُ غائِلَتُه» (جامع الأصول لابن الأثير 2/753). وجعلوا تركه من حقيقة الإيمان، قال ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما: «لن يصيبَ رَجُلٌ حقيقةَ الإيمانِ حتَّى يترُكَ المِراءَ وهو يعلَمُ أنَّه صادِقٌ» (رواه عبد اللهِ بن أحمد في الزهد 2134)، وجعلوه من الإثم، فقال أبو الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه: «كفى بك إثمًا ألَّا تزالَ مُماريًا» (رواه الدارمي 293 مطوَّلًا، وابن أبي الدنيا في الصمت 130)، وذكروا آثاره الرديَّة على الفرد والجماعة، فقال مالك بن أنس رحمه الله: «المِراءُ في العِلمِ يُقَسِّي القُلوبَ، ويُورِثُ الضَّغائِنَ» (رواه ابنُ عساكر في تاريخ دمشق 61/205)، وكلامهم في ذلك كثير، فليراجَع في كتب العقيدة المسندة.

واستثني من ذلك ما كان على وجه حسن يحصل به مقصود الجدال من ظهور الحجة، ولا أعظم من طريقة الحجاج القرآني في تحصيل ذلك، لذا وجب الوقوف عليه.

من خصائص الحِجاج القرآني وأساليبه:

إن في الحجاج القرآني من الخصائص والأساليب ما لا يكفي في ذكره وتحليله مجلدات، وهذا بعضٌ لا يغني عن التتبع.

1- الدعوى إلى باعث الحق من العلم والتذكُّر والعقل والتفكُّر:

وهذا مبدأٌ حقٌ يُوصل إلى المطلوب من الحجاج، ولا يعتمده أهل الباطل؛ فحجج أكثرهم تعتمد التقليد والعادة والجحود عن غير علم، قال الله تعالى حاكيًا عن حالهم: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَٰذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (المؤمنون:81-83)، ولكنه سبحانه وتعالى دعاهم إلى ترك هذا المسلك بتمسكهم بالعلم والتذكُّر (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (المؤمنون:84-85)، ودعا إلى العقل في مواضع كثيرة من الكتاب، منها قوله تعالى: (يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (هود:51)، ودعا إلى التفكر في مواضع كثيرة من الكتاب، منها قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) (الأنعام:50).

2- الانطلاق مما يجب أن يكون مشتركًا:

فإن آفة كل حوار غير بناء ألا يوقَف على قدر مشترك بين الخصمين، حتى يُنطَلق منه إلى الاتفاق، وهو المطلوب من الحجاج، ويؤسس لذلك ما جاء في قول الله عز وجل: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:٦٤).

3- مخاطبة العقل والعاطفة معًا:

وإن للإنسان مداخل عدة، فيُقنع البعضَ الحجة العقلية، ويقنع غيره الميل العاطفي، وقد يحتاج إلى الأمرين، أو أحدهما في وقت دون الآخر، وقد تكاملت طريقة الحجاج القرآني في مخاطبتها للعقل والعاطفة معًا، ودوننا كمثال قول الله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا) (مريم:88-92).

4- إثبات الحق بنفي الاحتمالات الباطلة:

وإن العقول لتستحيل أشياء حتى لا يبقى إلا الممكن، وفي حجة القرآن على إثبات الخالق قد عدد الاحتمالات الباطلة حتى لم يبق إلا الاحتمال الوحيد الصحيح، قال الله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (الطور:35-37).

5- الوضوح والدقة:

وإن ميزة حجج القرآن أنها واضحة مبينة، لا تعتمد الإلغاز، ولا تهدف إلى إقناع قوم أذكياء دون قوم دونهم في الذكاء، بل هي قمة في البيان مع السهولة، ودوننا حجة القرآن على وجوب العبودية لأجل ثبوت الخالقية، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21)، ومثله في حكاية مناظرة الخليل إبراهيم وإفحامه النمرود بالحجة القاطعة الواضحة (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258)، ومثله في إثبات أن القرآن كلام الله: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (النحل:103).

 

 

وقولوا للناس حسناً |  مجلة المجتمع الكويتية
وقولوا للناس حسناً | مجلة المجتمع الكويتية
الصوم يقتضي أن يصون الإنسان لسانه وجوارحه عن كل ما حرم الله، كما صام عن الطعام والشراب والمفطرات؛ فيجب عليه أن يحفظ لسانه عما حرم الله دائمًا في رمضان وفي غيره من قول الزور وسائر المعاصي من الغيبة والنميمة، وأن يكون حذره منها في رمضان أشد؛ فالصيام جُنّة وسترة من النار، وحصن لمن صانه وحفظه.
mugtama.com
×


 

6- إبطال القول الباطل بإثبات صحة نقيضه:

وهذا مبدأ عقلي فطري، فإن النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإن كان أحدهما باطل فالثاني حق، وقد أبطل القرآن دعاوى المناوئين له عن هذا الطريق، قال الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (الأنعام:91).

فما أجمل تلك الطريق اللاحبة، وما أيسر مسلكها للمفيد والمستفيد، وما أعظم وقعها على كل قلب حي، وللذي أبان الحجة وأظهر المحجة الحمد على نعمائه، وصدق تبارك وتعالى حين قال: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) (يس:69-70).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة