التربية على ممارسة الزاد التعبدي والدعوي

لقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعمل
على إسناد وتربية الأبناء على المهام الكبيرة، فيما يخصهم مع الله، ومع دعوتهم
للآخرين إلى الخير، ومن ذلك:
- التشجيع على إقامة الشعائر والمحافظة
عليها: لقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم حريصًا على تولية شباب وصبية مسؤوليات
الإمامة في الصلاة، ومن بينهم عمرو بن سلمة رضي الله عنه، وكان شابًّا صغيرًا
آنذاك.
ففي الحديث عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو قِلاَبَةَ: أَلاَ تَلْقَاهُ
فَتَسْأَلَهُ؟ قَالَ فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ
النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ: مَا لِلنَّاسِ، مَا
لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ
أَرْسَلَهُ، أَوْحَى إِلَيْهِ، أَوْ: أَوْحَى اللهُ بِكَذَا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ
ذَلِكَ الكَلاَمَ، وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ العَرَبُ
تَلَوَّمُ بِإِسْلاَمِهِمُ الفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ،
فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ
وَقْعَةُ أَهْلِ الفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي
قَوْمِي بِإِسْلاَمِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ
عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا، فَقَالَ: «صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا
فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ
الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا».
فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ
أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ،
فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ،
وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتِ
امْرَأَةٌ مِنَ الحَيِّ: أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟ فَاشْتَرَوْا
فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَـيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ القَمِيصِ(1).
فأمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بإمامة الأكثر تلاوة وقراءة وحفظًا للقرآن الكريم، جاء القرار على الصبي المميّز عمرو بن سلمة، وأمَّهم في الصلاة؛ ولعلّ في ذلك تشجيعًا وتحفيزًا لهمّته لإقامة الفرائض والمحافظة على الشرائع والتشريعات.
- وكان صلى الله عليه وسلم يُشَجّع الصِّبية
ويحفّز هِمَمَهُم نحو شرائع الدين وفضائله من عبادات ترفع قدر العبد وتُدنيه من
المولى عزّ وجلّ، كما كان الأمر مع ابن عمر في حديث قيام الليل.
فعَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى
رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى
رُؤْيَا أَقُصُّهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكُنْتُ غُلاَمًا
شَابًّا أَعْزَبَ، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي المَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم، فَرَأَيْتُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي
فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ البِئْرِ،
وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ كَقَرْنَيِ البِئْرِ، وَإِذَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ
عَرَفْتُهُمْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ آخَرُ، فَقَالَ لِي: لَنْ تُرَاعَ
فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ، فَقَالَ:
«نِعْمَ الرَّجُلُ عبداللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ» قَالَ سَالِمٌ:
«فَكَانَ عبداللَّهِ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلا قَلِيلا»(2)،
وهذا هو أساس التربية الناجحة.
وكان عليه الصلاة والسلام أحيانًا يجمع
أهل بيت الصبيّ الصغير؛ ليصلي بهم ويشاركهم التعبّد جماعيًّا؛ كما في الحديث
الصحيح عند البخاري من حديث الغلام أنس بن مالك يحكي: أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ
دَعَتْ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ
مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: «قُومُوا فَلِأُصَلِّ لَكُمْ» قَالَ أَنَسٌ: فَقُمْتُ إِلَى
حَصِيرٍ لَنَا، قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ،
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَفَفْتُ وَاليَتِيمَ وَرَاءَهُ،
وَالعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
انْصَـرَفَ(3).
وحريٌّ بالآباء والأمهات مشاركة أبنائهم في العبادة وتشجيعهم على المحافظة المستمرة على صلواتهم لله تعالى؛ فإن إخراج جيل عابدٍ لربّه، فاهم لدينه من المقاصد الكبرى والأهداف العظمى لبناء الأُمة والأوطان والحفاظ على الحُرُمات.
- ومنها كذلك التشجيع على ممارسة الدعوة؛ فقد
ولّى رسول الله بعض الشباب في حمل رسالة الدعوة إلى غيرهم من الأقطار والبُلدان،
وتلك نماذج عملية من تربية النبيّ صلى الله عليه وسلم لبعض الشباب والصبية على
تحمل مسؤولية الدعوة والصبر في سبيلها:
1- توجيه معاذ بن جبل إلى اليمن: ففي
الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ
مُعَاذًا عَلَى اليَمَنِ، قَالَ: «إِنَّكَ تَقْدمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ،
فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ الله، فَإِذَا عَرَفُوا
الله، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي
يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الله فَرَضَ
عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا
أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»(4).
واختيار معاذ خاصّة لأنّه كان يحمل طاقة
ومهارة كفيلة تعينه على أداء هذا التكليف الثقيل؛ لذا فقد قُدِّم على غيره من
أقرانه في دعوة الناس وهدايتهم إلى ربهم.
2- بعث سيدنا مصعب بن عمير إلى المدينة
المنورة: فحين بايع الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولى، قبل هجرة النبيّ صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة، أرادوا من يعلمهم أمور الدين والتعبّد، ويدرّس لهم
الفقه وأحكامه، وحُقّ لمصعب الخير أن يكون الشخص المناسب لهذا الغرض؛ فهو الثري الذي
ترك ثراءه من أجل الدين، وهو قادمٌ بعد قليل على أثرياء العرب، فهو قدوة لهم في
هذا.
3- إرسال علي بن أبي طالب رضي الله عنه
إلى يهود خيبر: ففي الحديث المتفق عليه من حديث سهل بن سعد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم، قَالَ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ
عَلَى يَدَيْهِ»، قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ
يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، كُلُّهُمْ
يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ: «أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟»،
فَقَالُوا: يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَأَرْسِلُوا
إِلَيْهِ فَأْتُونِي بِهِ».
فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ
وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ
الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى
يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ
بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ
عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَالله لَأَنْ يَهْدِيَ الله بِكَ رَجُلًا
وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»(5).
ومن آثار تلك التربية التعبدية، ما يأتي:
1- مجاهدة النفس في تحقيق ما أمر الله
تعالى: فالعبادات التي جعلته يقف بين يدي الله تعالى خمس مرات في اليوم والليلة،
والصيام الذي امتنع من خلاله عن الطعام والشـراب والمباحات بإرادته واختياره، وكذا
باقي أمور التعبد، كل هذا كفيل بأن يجعله وقّافًا عند حدود ربه، ففي ذلك كله تربية
للإرادة على ترك الرذائل والتحلي بالفضائل.
2- تربية الأبناء على قيم التعاون
والانضباط والنظام: ومن ثمرات تلك التربية: احترام النظام والانضباط بضوابط
المجتمع وقيمه، وممارسة وشعور، وعبادات هذه الأمّة ليست أركاناً تؤدَّى أو حركات
تُبْذَل فحسب؛ بل هي عبادات جماعية تُخرِّج جيلاً من البشـر يحترمون النظام، وينضبطون
بضوابط المجتمع وقيمه، ويمارسون التعاون في سلوكياتهم وأعمالهم المجتمعية، ويشعر
فيهم القادر بغير القادر، والصحيح بالمريض، والقوي بالضعيف.
3- تربية الأبناء على الأخلاق الفاضلة: فكما أنّ العبادات صلة بين العبد وربه، فإن لها ثمرات أخلاقية، ذاتية وجماعية.
____________________
(1) صحيح البخاري: كتاب المغازي (4302).
(2) صحيح البخاري: كتاب أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم، بَابُ مَنَاقِبِ عبداللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا (3738)، و(3739).
(3) أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، بَابُ
الصَّلاَةِ عَلَى الحَصِيرِ (380)، وقد بوّب البخاري لهذا الحديث في موضع آخر من
صحيحه، في كتاب الأذان، تحت عنوان «بَابُ وُضُوءِ الصِّبْيَانِ، وَمَتَى يَجِبُ
عَلَيْهِمُ الغُسْلُ وَالطُّهُورُ، وَحُضُورِهِمُ الجَمَاعَةَ وَالعِيدَيْنِ
وَالجَنَائِزَ، وَصُفُوفِهِم».
(4) أخرجه البخاري في صحيحه من حديث
عبدالله بن عباس: كتاب الزكاة، بَابُ لاَ تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ
فِي الصَّدَقَةِ (1458).
(5) صحيح البخاري: كتاب أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم، بَابُ مَنَاقِبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ القُرَشِيِّ
الهَاشِمِيِّ أَبِي الحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3701). وصحيح مسلم: كتاب
فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، بَابُ مِنْ فَضَائِلِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (2406).