«الصمت العقابي».. السلاح الذي يدمر الزواج بصمت!

د. يحيى عثمان

20 أكتوبر 2025

199

أستاذي الفاضل، أنا وزوجتي من متابعي بوابة الاستشارات بمجلة «المجتمع»، ومعذرة! هذه رسالة لزوجتي من خلالكم، كما آمل أن تكون لتوجيهاتكم نفع لنا وللمسلمين.

إنني أغبط من يكتب إليكم مستغيثاً من صراخ زوجته، من شكوى زوجته، من طلبات زوجته، من تفاعل زوجته معه؛ أياً كانت سلبياتها! الحمد لله زوجتي بها نِعَم يتمناها أي زوج، وكان زواجي بها أكثر من حلم، ثم كانت تبهرني بكل يوم منذ تعرفت عليها وحتى بعد زواجي منها بما يقرب من سنة! مهلاً يا أخي، ليس هناك لغز.. إنه الصمت العقابي!

فجأة، تصمت وتنسحب، وتتركني أخمن وأتوقع وأُعمل كل أدوات الاستنباط والاستقراء والحدس للبحث لماذا صمتت؟! وقد يستغرق ذلك دقائق أو ساعات أو أياماً، وقد يقتصر على الحديث الشخصي بيننا، أو قد يتناول كل علاقاتنا، ويكون «واتساب» الوسيلة الوحيدة للتواصل وفقط لإدارة شؤون البيت والأولاد، ثم تعود طبيعية مرة أخرى دون الإفصاح، وإن حاولت الاستفسار يكون ردها: «لقد تناسيت فلا تذكرني».

«الصمت العقابي» هو الامتناع المتعمَّد والمستمر عن التواصل اللفظي أو الاستجابة العاطفية تجاه الزوج

أحياناً أُوفق وأستنتج سبب صمتها وأبرر تصرفي فتقتنع، أو أعرف خطئي فأعتذر وينكسر الحصار وتنقشع غمامة العقاب بصمتها، ولكن في معظم الأحيان أظل تائهاً بين إجابات لماذا صمتت؟ هو عقاب لسبب لا أعرفه، وعليَّ أن أتوقعه وأصلحه من نفسي دون أي معونة منها!

تحليل المشكلة

أولاً: ما الصمت العقابي:

يُعرّف الصمت العقابي، الذي يُشار إليه في علم النفس أحياناً بـ«الجدار الصامت»، بأنه الامتناع المتعمد والمستمر عن التواصل اللفظي أو الاستجابة العاطفية تجاه الزوج، هذا الامتناع ليس مجرد انسحاب بسيط، بل هو قرار واعٍ يُستخدم بشكل أساسي لأغراض مختلفة، أبرزها العقاب، أو التلاعب العاطفي، أو التحكّم بالزوج.

ويتم التعبير عن هذا السلوك بطرق متعددة في الحياة الزوجية؛ فقد يكون رفضاً صريحاً للاستجابة لحديث الطرف الآخر، أو يتمثل في الرد بإجابات مختصرة وغير شافية باستمرار، أو حتى التعامل مع الشريك بتجاهل تام كأنه غير موجود.

هذا الرفض للتواصل يخلق حالة عنيفة من التوتر النفسي داخل إطار الحياة الزوجية، وفي منهج الإصلاح علاج المشكلات الزوجية، يُصنّف الصمت العقابي كأحد السلوكيات الأكثر خطورة التي تنبئ بفشل الزواج، وذلك بسبب تدميره لأسس الثقة والأمان الزوجي.

ثانياً: ما الحدود بين الصمت كعقاب ومهدئ؟

يواجه الكثير من الأزواج صعوبة في التمييز بين الصمت الصحي الذي يعكس حاجة إلى التهدئة، والصمت السام الذي يُستخدم للعقاب والابتزاز، هذا التمييز هو الخطوة الأولى والأكثر أهمية في علاج أنماط التواصل غير الصحية.

من أهم أسباب لجوء الزوج للصمت العقابي قناعته بفشل الحوار الهادف مع زوجه الذي قد يولّد مشكلة أكبر

ويختلف الصمت الهادف البناء اختلافاً جوهرياً عن الصمت العقابي، فالصمت البنّاء يمكن أن يكون قراراً حكيماً وأقل إرهاقاً من الكلام، خاصة عندما يشعر الشخص بالاستنزاف العاطفي، أو عندما يكون التوتر حاداً؛ ما يجعله وسيلة لتهدئة حدة الخلافات وتجنب تعميق المشكلة.

أما الصمت العقابي، فهو صمت غير صحي ووسيلة متعمدة للإساءة، لا يهدف إلى التهدئة، بل إلى فرض الرأي والسيطرة؛ حيث إن السمة المميزة له أنه يؤجج ويؤجل المشكلة ولا يعالجها؛ ما يؤدي إلى تراكم الخلافات وغياب الحلول الفعالة، إنه صمت سام يتم ممارسته بعنف معنوي بالغ الأثر، ويهدف إلى إحداث الألم العاطفي للطرف الآخر.

ثالثاً: دوافع استخدام الزوج للصمت العقابي:

إن من أهم أسباب لجوء الزوج للصمت العقابي قناعته بفشل الحوار الهادف مع زوجه؛ بمعنى أنه قد فشل في كل حواراته مع زوجه للوصول إلى حلول مقنعة للطرفين، كما أن الحوار قد يولّد مشكلة أكثر من المشكلة المراد الحوار بشأنها، ويمكن تصنيف دوافع استخدام الصمت العقابي ضمن 3 مستويات رئيسة:

1- دوافع الزوج الصامت: يلجأ بعض الأزواج إلى الصمت العقابي لتحقيق هدفين في الوقت نفسه رغم تناقضهما ظاهرياً؛ إحكام السيطرة على زوجه، والهروب من المواجهة.

إن الرغبة في إحكام السيطرة والبحث عن أساليب القوة لتحقيق الهيمنة الكاملة داخل الحياة الزوجية دافع شائع لهذا السلوك، كما يُستخدم الصمت كوسيلة للتعبير عن الغضب والشعور بالاستياء بطريقة سلبية، بعيداً عن تحمل مسؤولية الحوار المفتوح أو البحث عن حلول بديلة.

2- الصمت العقابي كوسيلة لمعالجة شدة التعلق.. التعلق التجنبي (عدم المواجهة): في هذا النمط، ينسحب الشريك عاطفياً وجسدياً كآلية دفاعية لمواجهة القلق الداخلي المرتبط بالقرب العاطفي، بالنسبة للشخص التجنبي، قد لا يكون الصمت تلاعباً واعياً بالضرورة، بل هو أسلوب تأقلم اكتُسب مبكراً لحماية الذات من الإحساس بالرفض أو الفيضان العاطفي، هذا الاستخدام للمسافة العاطفية يضر بشكل خاص بالزوج القلق؛ ما يخلق حلقة مفرغة من المطاردة والانسحاب.

تعلُّم فن إدارة الغضب والبحث عن حلول بديلة للخلافات بدلاً من استخدام التجاهل كوسيلة للتعبير عن الاستياء

3- الصمت العقابي والشخصية النرجسية.. الترويض والابتزاز العاطفي: يصبح الصمت أداة أشد فتكاً عندما يقترن بصفات الشخصية النرجسية أو المتلاعبة، في هذا السياق، يُعد الصمت العقابي نوعاً صريحاً من الابتزاز العاطفي الذي يستخدمه الشريك النرجسي للسيطرة على الآخر أو التحكّم فيه، إنه وسيلة لترويض الزوج الضحية وإجباره على فهم أن قيمته مرهونة باسترضائه.

رابعاً: الآثار السلبية للصمت العقابي:

يُعتبر الصمت العقابي أحد أسوأ أشكال الابتزاز العاطفي، ويوصف بأنه عنف معنوي بالغ الأثر، هذا السلاح الصامت لا يهدد فقط سلامة العلاقة الزوجية، بل يترك ندوباً عميقة على الصحة النفسية للزوج المتلقي، تتمثل في:

1- الآثار المدمرة على الزوج المتلقي (الضحية): عندما يتعرض الزوج للصمت العقابي، فإنه يدخل في دوامة من التوتر النفسي والقلق الشديد، ويبدأ الزوج المتلقي في التحليل المفرط، ويتساءل: ماذا فعلت؟ ما الذي تغير؟ ما الخطأ الذي اقترفته؟ هذا التساؤل المستمر يقوده إلى الشعور بالذنب وتأنيب الضمير، حتى لو لم يكن هو المخطئ؛ ما يمنح الشريك المتلاعب السيطرة والقوة التي يسعى إليها.

على الزوج الضحية أن يفتح قنوات التلاقي ويستجيب لطلبات زوجه المعقولة أو يقنعه بعدم منطقية طلباته

2- الآثار على مسار العلاقة الزوجية: من أخطر تداعيات الصمت العقابي أنه يتحول إلى نمط حياة في حل الخلافات الزوجية، لكنه في الحقيقة لا يفعل شيئاً سوى تأجيل المشكلة دون معالجتها، هذا التأجيل يؤدي إلى تراكم المشكلات بشكل مستمر وغياب الحلول الجذرية.

الحل

يتطلب كسر نمط الصمت العقابي التزاماً بتطوير مهارات تواصل جديدة، سواء من قبل الزوج الممارس للصمت العقابي أو من قبل الزوج المتضرر.

1- الوقاية خير من العلاج.. تعزيز التواصل الصحي:

لتجنب اللجوء إلى الصمت العقابي، يجب على الزوجين تبني إستراتيجيات تواصل وقائية، منها:

  • يجب تجاوز مفهوم «الأنا» الفردية ووضع مفهوم «نحن معاً» فوق المصالح الشخصية، والتركيز على الإيجابيات وتجاهل السلبيات، وتعزيز مبدأ المشاركة والتسامح، يكفل حماية العلاقة من هذا الخطر.
  • تعلم فن إدارة الغضب والبحث عن حلول بديلة ومباشرة للخلافات بدلاً من استخدام التجاهل كوسيلة للتعبير عن الاستياء.

2- مهارة «البدء الناعم» في الحوار:

يُعد «البدء الناعم» من أهم التقنيات المفيدة لتجنب التصعيد والدخول في دائرة الصمت العقابي، وتعني هذه المهارة أن يتم بدء مناقشة الخلافات الحساسة بنبرة هادئة غير هجومية، فبدلاً من البدء بالانتقاد أو اللوم الذي يدفع الزوج إلى الدفاع أو الانسحاب، يجب على الزوج التعبير عن شعوره أو احتياجه باستخدام عبارات «أنا أشعر بـ..»، بدلاً من «أنت فعلت كذا..»، هذا يقلل من احتمالية أن يشعر زوجه بالهجوم ويسهل عليه الاستماع والمشاركة في حوار ناضج.

3- إستراتيجيات التعامل مع الزوج الذي يمارس الصمت العقابي (للضحية):

يجب على الزوج الضحية ألا يدفع زوجه إلى الصمت العقابي بأن يفتح قنوات التلاقي معه، وأن يستجيب لطلباته المعقولة أو يقنعه بعدم منطقية طلباته، أما إذا لم يستجب وظل على نهجه في الصمت كأسلوب عقابي، فعلى الزوج المتضرر ألا يقع في فخ البحث المفرط عن الإجابات أو محاولة استرضاء الزوج النرجسي/المتلاعب، فهذا يمنحه الشعور بالسعادة والسيطرة الذي يسعى إليه ويشجعه على تكرار سلوكه السلبي معه.

4- وضع الحدود الشخصية كخط دفاع إلزامي:

عندما يصبح الصمت العقابي نمطاً متكرراً، فإن الحل يكمن في تطبيق الحدود الشخصية الصارمة.

فيجب توضيح الحدود بشكل صريح وناضج بعد هدوء الخلاف، حيث يوضح الزوج المتضرر شروطه وقواعده في العلاقة (ماذا يقبل، وماذا يرفض)، يجب أن يتم الرفض المطلق لأسلوب الصمت العقابي والتأكيد على أنه لا ينفع، وأن العلاقة يجب أن تقوم على الحوار الناضج والاحترام المتبادل.

عندما يصبح «الصمت العقابي» نمطاً متكرراً فإن الحل يكمن في تطبيق الحدود الشخصية الصارمة

الأمر لا يتوقف عند التعبير اللفظي، بل يجب أن تكون الحدود مصحوبة بآلية العواقب، ويجب أن يوضح الزوج المتضرر أنه في حال استمرار زوجه المسيء، في اختراق الحدود المتفق عليها أو استخدام الصمت العقابي؛ فإن هناك عواقب واضحة سيتم تطبيقها، ومن الضروري أن يحترم الزوج الممارس للصمت العقابي هذه الحدود، وألا يحاول اختراقها أو كسرها، وأن يعلم مسبقاً رد فعل زوجه المتضرر بصمته العقابي.

لا أستطيع بيان شكل رد فعل الزوج المتضرر من الصمت العقابي لزوجه؛ لأن كل زوجين حالة خاصة، ولكن يمكنني أن أقول: إن رد فعل الزوج المتضرر يجب أن يمثل إحراجاً نفسياً لزوجه المسيء بحيث يستثير رغبته إلى الإقلاع عن غيّه، ولا يستثير أثرة نفسه والاعتداد بالإثم والتمادي في طريق الشيطان.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة