الدراما والحب.. وهْم الشاشة وتشويه مفاهيم الزواج!

في زمن أصبحت فيه الشاشات مرآة تشكّل فكر ومبادئ الكثير من الشباب، لم تعد الدراما مجرّد وسيلة ترفيهية، بل صارت مصنعًا ضخمًا لتشكيل القيم الأخلاقية، خاصة فيما يتعلّق بالعلاقات الإنسانية والعاطفية، فما نشاهده اليوم من مسلسلات وأفلام عربية أو أجنبية لا يكتفي بسرد القصص، بل يزرع في عقل الشباب تصوّرات نمطية ومشوهة عن المرأة، أو الزوجة المثالية، والرجل أو الزوج المثالي، والحب الحقيقي، التي في غالبها تصورات لا تمتّ للواقع بصلة؛ لذا سنقوم هنا بتناول أبرز ملامح هذا التأثير من خلال 4 محاور أساسية:

أولًا: وهْم الرجل المثالي والمرأة المثالية:

منذ عقود، والدراما بشتى أنواعها سيما الرومانسية منها أسهمت في ترسيخ صورة مثالية غير واقعية عن الرجل والمرأة، ففي مسلسل تجدهم يعرضون البطل في قالب الرومانسي الجاد المغامر الذي يجمع بين روح المغامرة والرومانسية؛ حيث يصطحب زوجته في نزهات شبه يومية ويغرقها بكلمات الحب، والجدية؛ حيث يظهر كمدير شركة أرباحها بالملايين، وبالتالي، فمن المنطقي أن يجد الوقت الكافي الذي يخصصه لزوجته، حيث إنه لا يقوم إلا بإدارة عمله مما يمنحه الكثير من وقت الفراغ.

وفي مسلسل آخر يجمع البطل بين الرجل الذي يؤيد الحركة النسوية، حيث يدعم رغبة زوجته في الاستقلال المادي، وفي الوقت نفسه يغدق عليها من الهدايا بمناسبة أو دونها، كما لا يمانع في خروجها للعمل واختلاطها بالرجال، ولكنه يغار عليها مع ذلك!

أما المرأة فحدّث ولا حرج، حيث تظهر في صورة الزوجة المثالية التي لا يعيبها شيء، فهي الجميلة والمتفهمة والمبتسمة على الدوام، وهي التي تُضحي بصمت وتغفر بلا حدود، وأحيانًا يتم تصويرها على أنها البطلة (اللطيفة وحسنة الخلق) التي تعيش علاقة غير شرعية مع البطل، بينما زوجته شرعًا هي المرأة التي لا تُطاق، وهذه الصور المكررة والمشوهة صنعت في أذهان المشاهدين صورة غير أخلاقية عن الزوجة المرغوب فيها.

وتأثير هذا الأمر لا يقتصر على المراهقين الذين ينجذبون لمثل هذه الأنماط بسهولة، بل يطول المتزوجين كذلك، إذ يبدأ الزوج في مقارنة زوجته بما يراه على الشاشة؛ فيتوقع منها أن تكون في أبهى حلة على مدار اليوم! بينما تنتظر الزوجة من زوجها أن يتصرّف كما يتصرف البطل -في مسلسلها المفضل- فيكون صبورًا وطموحًا ورومانسيًا وخفيف الظل وجادًا كل في آن! وهكذا تتحوّل الدراما إلى أداة ضغط نفسي تزرع الإحباط في العلاقات الزوجية الواقعية، لأنها ترفع سقف التوقعات إلى مستويات غير منطقية أو آدمية.

ثانيًا: تشويه مفهوم الحب والزواج:

تقوم الكثير من المسلسلات الرومانسية على معادلة بسيطة وخطيرة، وهي أن رفع نسبة الإثارة يعني رفع نسبة المشاهدات ونجاح العمل الدرامي باكتساح؛ لذلك نجد أن تركيز معظم هذه المسلسلات يكون على الصراعات النفسية، والفكر الشاذ غير المألوف، والمشاهد التي تستحث الغرائز، وتنافي الفطرة السوية.

في حين يتم تجاهل الجوانب الحقيقية للحبّ مثل الاحترام، والاحتواء، والرحمة، فالأخيرة تلك عادة ما لا تجذب انتباه الجمهور، فمن سيرغب في مشاهدة منزل يعمه السكون تؤدي فيه الزوجة دورها كأُم حنون وزوجة ودودة، بينما يعمل الزوج الصالح ليكسب المال ويعيل عائلته، يعود إلى منزله آخر اليوم فيرتاح ويسكن إلى زوجه ويلاعب أطفاله؟!

ومن هنا، صار الزواج في المسلسلات غالبًا ما يُعرض كمرحلة نهاية الشغف، وبداية الملل والمشكلات والخلافات، بينما يُقدَّم الحبّ المحرّم والخيانة على أنها أكثر صدقًا ودفئًا من الزواج الشرعي، وهكذا يتم تشويه صورة الزواج، وتحبيب الشباب فيما هو محرم بتجميل الزنى والفواحش، وذلك برسم مرتكبيها في صورة أبطال وسيمين ونساء جميلات.

فتُظهر بعض الأعمال مشاهد الخيانة الزوجية مبرَّرة برغبة جامحة من الطرف الخائن للإشباع العاطفي، وتقصير الطرف الذي تمت خيانته في إشباع تلك الرغبة، فيجد المشاهد نفسه وقد أدان الضحية التي تمت خيانتها لشخصيتها القاسية في المسلسل، رغم كونها المظلومة بتعرضها للخيانة، بينما يظهر الطرف الخائن ضحية علاقة لم يتم فيها إشباع العواطف كما أراد فارتكب المسكين الفاحشة مجبرًا! وأمر كهذا أدى مع الوقت لاستهانة كثير من الناس بالحرام، بل وتبريره بتقصير الطرف الآخر!

ثالثًا: تضخيم قيمة مشاعر الحب والاستخفاف بالقيم الإسلامية:

إن الدراما الحديثة لا تكتفي بتشويه المفاهيم، بل تقوم بتضخيم المشاعر بشكل مبالغ فيه حتى تبدو الانفعالات الجياشة من غضب وغيرة وخلاف معيارًا للحبّ، فكلما زاد الصراخ وذُرفت الدموع؛ أضفى ذلك على المشهد والشخصيات مسحة أكثر تشويقًا ورومانسية.

حيث تعرض الأفلام للحب من خلال تسليط الضوء على المشاعر المتأججة لا على خصال مهمة، مثل النضج وتحمل المسؤولية، أما الشخصيات المتزنة والراقية في تعاملها فتبدو مملة وباردة، وعادة ما تكون شخصيات ثانوية لا دور يذكر لها، وهكذا نشأت ثقافة جديدة تحصر الحبّ في الانفعالات العاطفية وشغف البدايات، ولا تربطه -كما يجب أن يكون- بالعقل والعقيدة والأخلاق الحميدة.

وما يزيد الطين بلّة أن كثيرًا من تلك الدراما تُركّز على المظاهر المادية كوسيلة رئيسة للتعبير عن مشاعر الحب، مثل: السيارة الفاخرة، والمنزل الفخم، والسفر المفاجئ، والهدايا الباهظة، فكلها أشياء تُقدَّم كدليل على الحبّ، بينما تُهمّش القيم الجوهرية، مثل حسن الخلق والتقدير والتفاهم، وهكذا يصبح الحبّ مشروعًا استهلاكيًا لا علاقة له بالقيم الإسلامية العميقة، بل بالمظاهر الاجتماعية الخداعة.

رابعًا: الحلول العملية والتربوية:

1- استقاء المعلومات من مكانها الصحيح:

لا يصلح أن يستقي المسلمون قدواتهم في الزواج أو الحياة من مسلسلات لا تمت بديننا بصلة، ثم يطبقونها في حياتهم الزوجية، فالنتيجة ستكون ما وصل إليه مجتمعنا وهو أن الشباب ما عادوا يعرفون ماذا وكيف يختارون، فهو لا يجد ما يشاهده في المسلسلات على أرض الواقع، وما يوجد على أرض الواقع لا يشبه الشخصيات الخيالية المثالية التي صنعتها المسلسلات وغرستها في عقله!

2- واقعية المعايير عند الزواج:

لا بأس أن يكون للإنسان معايير في الشخص الذي سيتزوجه ويعيش معه عمرًا وينجب منه أطفالًا، لكن في الوقت نفسه يجب أن تكون الشروط واقعية وغير متناقضة، فلا يصلح أن تتشرط الفتاة الزواج من شاب طموح ومتفرغ لها في الوقت نفسه، فهو إن كان طموحًا فهو بالضرورة مشغول في بناء ذاته وتطويرها حتى يصل للمنصب الذي تتمناه الفتاة له، وبالتالي لن يكون عنده الفراغ الذي تتوقعه منه!

وأخيرًا، تُظهر الدراسات أن الدراما الحديثة أسهمت بدرجة كبيرة في تشويه مفاهيم الحب لدى الشباب، من خلال بث صور مثالية زائفة، أما إذا استوعبنا الأمر من منظور إسلامي، فسنجد أن الإسلام يركز على التكامل والتكافؤ في الزواج لا المثالية، فكم من زيجات أسهمت المودة والرحمة في إزهار مشاعر الحب فيها، وكم من زيجات بُنيت على الحب، ثم دمرها سوء المعاملة والظلم والمقارنات غير المنصفة بأزواجٍ آخرين أو بشخصيات المسلسلات الخيالية!

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة